منبر حر لكل اليمنيين

على هذه الاعتقاد سار سقراط بثبات إلى حتفه!

28

في محاورة جورجياس (واحدة من أجمل محاورات أفلاطون)، يصور سقراط مشهداً تراجيدياً لطبيب ساقه أحد الطهاة للمثول أمام محكمة قضاتها أطفال،

الطبيب هو المتَّهم،

والطاهي هو المدعي، فلمن سيكون الحكم؟

يقول سقراط: “واذا ماقال المدَّعي (أيها الأطفال: إن ذلك الشخص قد أصابكم جميعا عدة مرات بضرر، وانه يشوه حتى أصغركم سنا بالقطع والكي، وأنه يسبب لكم الهزال ويخنقكم ويعذبكم، وانه ليعطيكم الجرعة المرة، ويرغمكم على معاناة الجوع والظلم، وانه ليس مثلي أنا الذي لا يكف عن أن يقدم لكم ألذ الاطعمة وأكثرها تنويعاً)،

فماذا يستطيع الطبيب أن يقول وهو ضحية مثل هذا الحادث المؤسف؟

إنه إذا أجاب بما هو حق وقال: انني أفعل كل ذلك لصالح صحتكم أيها الأطفال فأي صياح ترى سيخرج من صدور هيئة المحكمة؟

ألا تعتقد انه سيكون بالأحرى صياحا قويا للغاية؟”.

انتهى كلام سقراط،

وفيه ما يشبه النبوءة عما سيقع لسقراط نفسه فيما بعد: فهو الطبيب العاجز عن الدفاع عن نفسه أو تبرير موقفه،

وأما الطاهي الماكر البارع في مخاطبة وتملُّق غرائز الجمهور بالحُجج التي ظاهرها حق وباطنها فاسد وزائف، فهو رمز للحكام والنافذين في أثينا، وأسلوبهم حينها مثال على السفسطة، (الظاهرة المومرية حق هذك الايام!)،

والقضاة الأطفال رمز لعامة الشعب الأثيني (الرأي العام).

وحين سُئل سقراط في المحاوَرة عما إذا كان هناك جَمال في وقوف المرء عاجراً عن الدفاع عن نفسه في وطنه؟

قال نعم على شرط أن تتوفر له طريقة الدفاع الأخرى التي تمنحه القوة النفسية أمام هذا الامتحان، وهذه الطريقة هي ألا يكون قد اقترف خطأ يؤنبه عليه ضميره، سواءً في القول أو في الفعل، لا حيال الآلهة ولا حيال الناس، فهذه هي أفضل الطرق جميعاً.

والحقيقة أن هذه الطريقة في الدفاع تعني التخلي كلياً عن الدفاع في مواجهة كيد الجاهلين، أو هي ضرب من الاستسلام المترفع للمصير الحزين بضمير هادئ ومرتاح، والاستعداد لكل احتمال بما في ذلك الموت.

على هذه الاعتقاد سار سقراط بثبات إلى حتفه!

وخلال محاكمته الأشهر والأكثر ظرافة ومأساوية في تاريخ الفلسفة، حتى وهو يواجه الحكم بالموت، لم يتوقف سقراط عن طرح الأسئلة.

ومنها أنه، بعد أن استعاد فصول حياته في ذهنه كاملة، تساءل متحسراً: “ماذا أستحق من ثواب أو عقاب من أجل أنني اخترت حياة لا تعرف الراحة، مُهملاً ما يهتم به الناس من ثروة ومكانة ومنزلة، مُعتبراً أنني في الحقيقة أطيب من أن أستطيع إنقاذ حياتي لو سلكت هذا الطريق؟”.

وفي دفاع من دفاعاته المرحة اللاذعة قال:

“وقسماً بالكلب، أيها الأثينيون، وواجبٌ عليّ قول الحقيقة لكم، أن هذا هو ما حدث لي: هؤلاء الذين كانوا مشهورين أكبر شهرة بالحكمة بدوا لي، بعد فحصي لهم، أفقرهم إليها، على حين أن آخرين كانوا يُظنّون أقل منهم كانوا في الحقيقة رجالاً أجدر من وجهة نظر الحكمة”.

والتفت إلى تلاميذه ومريديه وخاطبهم بالقول:

“ولكن ها قد حانت الساعة للرحيل، أنا لأموت، وأنتم لتعيشوا. من منا يذهب إلى المصير الأفضل؟ الأمر غير واضح أمام الجميع، باستثناء الاله”.

وعندما وقع نظره على صديقه إقريطون قال له: “يا أقريطون العزيز، لكم سيكون حماسك عظيم القيمة لو كان مصحوباً بالصواب”.

ومهما كان الحزن الذي ينتاب المرء حيال اللحظة المهيبة لرجل في السبعين من عمره، هو أحكم رجال عصره، يجرع السمّ بيديه تنفيذاً لحكم قضائي مدفوع بأغراض هجينة سياسية ودينية وفكرية، فلا يسعه إلا أن يتبسم من عبارة أخيرة قالها سقراط قبل أن يلفظ أنفاسه: “يا أقريطون إنّنا مدينون بديكٍ لأسكليليوس، فأدّوه ولا تهملوا في ذلك”.

تعليقات