رَيمةُ المَنسيّة.. جارةُ السماء وبستان الملائكة (الجزء الأول)
ريمة جارةُ السماء وبستان الملائكة، تستلقي كحديقةٍ معلقةٍ بين السماء والأرض، وكأنها عاصمة الغيم الدائمة والفاتنة، لكل بيتٍ في ريمة حكايةٌ مع الغيم، وأحاديث لا تنتهي مع النجوم! ففي أثناء الصعود إلى “جبينها” تنفر منك العين كظبيةٍ في بَرارٍ عذارَى، وجناتٍ متراميةٍ، فيما يَركضُ القلبُ كحصانٍ هاربٍ من عوادم المدن ووحشة الأسفلت.
كلما تعمّقتَ أكثر فيها، تفجّرت أمام عينيك ينابيع من الخضرة والغيوم التي لا تستقرُّ على صحو ولا تتعب من الصعود والهبوط، وكأنك في سباق معها. تتشكل تارة بما يشبه عمامة على رأسك، وتتراءى تارةً أخرى – أسفلَ منك – كسجادةٍ سحريةٍ مستعدةٍ للطيران، فيما تمشي معك وتلتحم بك تارة ثالثة، فلا تفرّق بين بَياضها وبَياض قلوب أهالي ريمة البسطاء في سلوكهم وملابسهم وحياتهم العادية.
رَيمة.. الجنة المجهولة أو المُتَجَاهَلَة المُهمَلَةُ، والملهمة الفريدة، التي تمنحك في كل منعطف عناقًا، وتختطف -دون تكلفٍ- شهقةً من أقاصي روحِك، كأنك ترى الأرض لأول مرةٍ، أو كأنك هبطت إليها من كوكبٍ آخر. في ريمة ستجد الأرض غيرَ الأرض، البيوت التي ينبت الورد من شقوق جدرانها غيرَ البيوت، والخُضرةَ غيرَ الخُضرة، كل شيءٍ مختلفٌ فيها ومتفردٌ، لن تجد مثله في أي مكان أو بلاد.
أما تسميةُ عاصمة المحافظة بالـ”جَبِين”، فلم تأتِ من فراغٍ، إذ إن من يصعد إلى قمتها لن يساوره شكٌ في أنه يقف على جبين الأرض وذروة شواهقها. أما من يتجول فيها فسيشعر أنه ينفذ من غيمة إلى أخرى، لا مِن حارة إلى أخرى، فلا وجود للحارات والأحياء ولا لما يشبه الحياة التي نعيشها في المدن؛ لأن كل بيتٍ فيها، أو سلسلة بيوتٍ ملتصقةٍ ببعضها، تلوح أمام عينيك على صخرة أو “جرفٍ هارٍ” واقفة بشموخٍ وكبرياءٍ فريدَين، وكأنها نبتت وتشكلت مما تقف عليه، حد ظنك أن لا علاقة للإنسان في تكوينها أو هندسة ملامحها.
وإن كانت “الجَبين” هي العاصمة، التي من المفترض أن تتوافر فيها أبسط الخدمات، إلا أنك تذهل حين تراها، لا بعينيك بل بخيالك، وكأنك تستعيد ما تختزنه ذاكرتك من حكايات الأجداد عن القرى بكل بساطتها وجمالها البكر وحياتها المطمئنة والمتصالحة مع كل ما حولها ومَن حولها، إذ سرعان ما يتبادر إلى ذهنك تساؤل عمّن روَّضَ الآخر هنا؟ الأرض أم الإنسان؟ وهو تساؤلٌ تصعب الإجابة عنه، ولا يتوقف التفكير عن ملاحقة سراب أجوبته، التي تتلاشى وتغيب كما تغيب “الجبين” في أمواج الضباب المتعاقبة.
حين تغادر “الجَبين” بما تركته فيك من أثرٍ لا يُمحى، ويحالفك الحظ بالتوقف في منحدرات الطريق لالتقاط صورة هنا أو هناك، ستقف مذهولًا وأنت لا تعرف هل تصعد أم تهبط على سُلَّمٍ يربط بين الأرض والسماء! غير أن ما سيختطف بصرك وحواسك هو تلك المنازل المعلقة حد تفكيرك كيف بُنِيَت وكيف يصل إليها الناس، وأيّةُ عزيمةٍ فولاذية وقوةِ شكيمة جعلت الإنسان “الريمي” يتخذ من تلك الأماكن الوعرة أرضًا لأحلامه؛ يسكن فيها ويشيِّدُ المنازل العالية عليها، وكأنه في غنًى عن الأرض المنبسطة. يأتيه قُوتُهُ كل يوم على جناح ملاكٍ متجولٍ يهبط من السماء، محملًا بما تشتهي الأنفس والأرواح، بل قد تشعر أيضًا أنك تشاهد سماءً مقلوبةً، نجومها تلك البيوت المتفرقة على شواهق الجبال، وللعمارة وثقافة البناء في “ريمة” عالم خاص ومختلف، لا يزال يعتمد في كثير منه على الصخور الصلبة والكبيرة الحجم، ولا يستخدمونها لبناء الجدران فقط بل وللسقوف أيضًا، وقد يسقفون بيوتهم أحيانًا من خشب الأشجار كـ”الطلح” و”الطنب” وغيرهما.
المذهل في الأمر، هو طريقة البناء المحكمة حد الترف، والتي تصمد في أعالي الجبال وتقاوم الزمن وتقلباته. ورغم ارتفاعها الشديد، فإنهم لم يعدموا الوسيلة لإيصال تلك الصخور الضخمة إلى مكانها المناسب حملًا على ظهورهم، وكأنهم يحملون حقائب سفر. أما الشرفات في أغلب البيوت، فهي أشبه باستراحات كاملة، أو طاولات في حديقة عامة، فقد يجلس فيها عدة أشخاص متقابلين، وكأنهم يجلسون على مقهى مطلّ على البحر، غير أنه بحر من الغيوم والغابات والزرقة الناصعة، كلما آبَت الغيوم إلى أعشاشها في السماء.
عندما تدخل أحد بيوت ريمة، تجده مجهزا بكل لوازم الحياة العصرية وأبّهة المدينة، فتبقى في مفترق الحيرة ما بين داخل المنزل وخارجه، وكأنك تعيش في الحدود الفاصلة بين عالمين.
لكن هذه ليست سوى البداية؛ فما ينتظرك في كل قرية وعُزلة، من تفاصيل وسمفونيات عجيبة ومبهرة، تتناغم فيها عناصر الطبيعة بعبقرية الإنسان، لتشكلا عالمًا فريدًا وساحرًا، لم يخطر لك على بال، إنه سفر طويل في عالم أشبه بالخيال!
أوديةٌ أم غابات؟
في “ريمة” أنت على موعدٍ مع مفاجآت لا تنتهي. فكلما انعطفت انخطفت، وكلما سمحت لنفسك وساعدك الوقت على الغوص، رأيت ما لا عينٌ رأتْ، ولا ورد على خيال بشر. في الجزء الأول من هذا المقال كان الحديث عن عاصمة المحافظة، وهي في حقيقة الأمر لا تحمل من صفات العاصمة غير الاسم، فهي أشبه بقرية كبيرة تفتقر إلى أقل المقومات، ولا بد من الحديث عن ذلك في الأجزاء اللاحقة.
في طريق عودتك من “الجبين”، عاصمة المحافظة التي لا تحمل من صفات العاصمة غير الاسم، وتفتقر لأبسط الخدمات، تتناثر ما تحسبها أودية للوهلة الأولى، على جنبات الطريق، لكنها ليست مجرد أودية بل غابات تتجاوَرُ فيها حياة الإنسان بحياة النبات والحيوانات الأليفة والمفترسة. ومن أغصان أشجارها، تتدلى الثمار المحملة بما تتوق إليه النفس إلى نافذة سيارتك دون عناء ولا نَصَب، وكأنها تقدم إليك واجبَ الضيافة كجزءٍ من طبيعتها وكرم أهلها.
من تلك الوديان الساحرة أو بالأحرى، الغابات الوارفة، مكانٌ يُعرف باسم “وادي البلبل”، ويقع بين “الجبين” ومديرية “الجعفرية”. يلزمك للصعود إليه أن تضع مخاوفك على الطريق الأسفلتية، وأن تتسلح بحسٍّ يَقِظٍ قادر على التجاوب السريع مع مباغتات الطريق، التي تشبه إلى حد بعيد “الصراط المستقيم” كما نتخيله. فمن الأسفل، هاوية وسيل، ومن الأعلى، جناتٌ مرسلةٌ على مد البصر. ولا يلزمك للمرور في الطريق سيارة عادية، بقدر ما يلزمك بُراقٌ قادرٌ على القفز والطيران، إذ لا تكاد تلتقط أنفاسك -وأنت تقف في وجهتك- إلا وتُدوِّي طبول الدهشة في حناياك وعينيك، لتسبح في بحارٍ من خضرةٍ وسحرِ طبيعةٍ ما تزال على طبيعتها التي أبدعها الله أول مرة، دون تدخل عابث لأية يد بشرية.
في “وادي البلبل” أنت وحدك الحَكَمُ، حيث ينازع بصرك سمعك، وهو يصغي إلى موسيقى الطبيعة، المتشكلة من حفيف الأشجار وقهقهات العصافير وتموجات المياه، حتى تكاد تشعر أنك المخلوق الوحيد في هذا العالم، وأن لا أحد يشاركك فيه. لكنك سرعان ما تكتشف -وقد أحاطت بك قلوب أهلها الكرماء- أنك لست وحيدًا، وأن ثَمّة من سبقك إلى المكان وسكن فيه وتعايش مع سكونه وامتزج بخضرته وسحره، فتعيش وكأنك في ضيافة الأغصان لا في ضيافة بشرٍ كباقي البشر الذين تصادفهم كل يوم. لا يزال الناسُ هنا يحتفظون بصفات العرب الكرماء وكرم أخلاقهم، كما قرأنا عنهم في كتب الأخبار والسِّيَر، حاتميون بالفطرة، تتجلى قلوبهم في صفحات عيونهم المشبعة بالألفة والبساطة.
الغريب في الأمر، أنك ما إن تدخل إلى منازلهم حتى يقشعر قلبك، وكأنك في غمضةِ عينٍ انتقلت من الجنة إلى منزل في مدينة حديثة على الأرض، مجهزٍ بكل لوازم الحياة العصرية وأبّهة المدينة، فتبقى في مفترق الحيرة ما بين داخل المنزل وخارجه، وكأنك تعيش في الحدود الفاصلة بين عالمين؛ أحدهما: ما يتجسد في داخل المنزل من حياةٍ عصريةٍ مكتملةٍ، والثاني: ما ينتظرك خارجه من حياةٍ بريةٍ وريفيةٍ وارفة الجمال والظلال. حينها تجد نفسك بين سخطين؛ سَخَطٍ على الزمن الذي لا يتوقف جريانُه، وسَخَطٍ أكثر على الشغف الذي يدفعك من الداخل لمغادرة الجنة التي اكتشفتها للتو، طمعًا في رؤية المزيد الذي لا ينتهي، وقد تجمد لسانك وتخشبت كلمات الشكر في فمك، وأنت في حضرة النبلاء الذين فرشوا قلوبهم قبل موائدهم لاستقبالك. استقبالٌ بكرم الملوك وشهامة الملائكة، حدّ ظنك أنهم أهدروا من أجلك ما يكفيهم لعامٍ كامل، فتغادرهم ممتلئَ القلب والعين، بفم صامت وفؤاد خجول.
قد تعتقد أنّكَ أصِبتَ بالتخمة لفرط ما تسلقت حواسك في مدارات الجمال!
لذا تتوجب عليك الاستراحة قليلًا، فلا بد لك، للانتقال بين جنتين، من عبور طريق فاصل وحط الرحال في مساحة خالية. ولاستعادة حواسك وتشويقها بالكثير الذي لم يُكتشف بعد، لن تجد أجمل من تهامة المترامية الرمال، لإعادة تفعيل روحك وتهيئتها للمزيد من المغامرة في اكتشاف تفاصيل الجنة المنسية. غير أنك قبل الانطلاق، ستجد نفسك مضطرًا للمقارنة بين عوامل الثراء المهدورة بين المحافظتين، فتؤجل ذلك حتى لا يشغلك عن الانغماس الكُلِّي في روعة وفتنة الجنة التي جئت من أجلها.
من صفحة الكاتب على الفيسبوك