الصحافة في اليمن في ظل آلة الحرب
الصحافة هي تلك المهنة الصعبة وتُسمى مهنة البحث عن المتاعب، لما لها من أهمية كبيرة في المجتمعات، وهي تتكلم عن السياسة والاقتصاد والفنون وكل ما يهم المواطنين، وبدأت الصحافة في الوطن العربي مع الحملة الفرنسية في العام 1798م وقد مرت بالعديد من مراحل التطور وما زالت في تطور مستمر، وترجع أهمية الصحافة في المجتمعات لدورها في تزويد الأشخاص بكافة الأنباء والأخبار التي تحدث في المجتمع، وتشارك في صنع القرارات الهامة وتخلق رأي عام محلي ودولي، بالإضافة إلى مساهمتها في رفع مستوى وعي الشعوب.
إن الصحافة في بداية ظهورها لم تكن منتظمة الصدور، ولم تنشأ أول صحيفة دورية، إلا في سنة 1631 في فرنسا. أما في العالم العربي، فقد نشأت الصحافة على أيدي الأدباء والنقاد الرواد. ويكفي إلقاء نظرة على تأريخ الصحافة العربية، وتراجم روادها الأوائل، في كل من مصر ولبنان والعراق، وفي سائر البلدان العربية، لأثبات هذه الحقيقة الموثقة.
ولأن الصحافة مهمة جداً في حياتنا خاصة في ظل ظروف الحرب التي يمر بها اليمن، فإنها تتعرض اليوم لأبشع أنواع التشويه والتنكيل والحرب الكلامية والتحريض الممنهج الذي يرافقه لغة القتل واستباحة دماء الصحفيين.
لقد تعرض الصحفيين في اليمن خلال العشر سنوات من الحرب للعنف والاعتقالات والتعذيب والاغتيالات والنزوح والتشرد من مدينة لأخرى، وحالياً الكثير منهم إما في سجون الميليشيا الحوثية أو سجون الشرعية، أو محاصرين في مناطقهم ومدنهم ويخضعون للإقامة الجبرية، هكذا يبدو الحال في اليمن، والكثير منهم قد يسردون لك قصص معاناتهم وطرق الظلم والقهر والتعسف الذي تعرضوا له.
إن الصحفيين في اليمن هم أكثر الشرائح تضرراً، حيث تعرض العديد منهم للانتهاكات والاعتداءات الجسدية والمضايقات مما أجبر كثير منهم للهجرة إلى خارج الوطن ودول الجوار.
ولنا نماذج مصغرة لمعاناة عدد كبير من الصحفيين الذين تشتت بهم السبل عقب اندلاع الفوضى والحرب في اليمن منذُ العام ٢٠١١م و ٢٠١٥م حتى يومنا هذا.
واقع مرير ومستقبل مظلم تعيشه الصحافة اليمنية، كشفته العديد من المنظمات الحقوقية معلنةً عن تعرض المئات من الصحفيين للانتهاكات والاعتداءات، نتيجة الحرب وغياب الدولة ودور المؤسسات الحكومية والقانون، بالإضافة إلى توجه أغلبهم للعمل في مهن أخرى هامشية لتوفير حياة كريمة لأسرهم، ويعيش الصحفيين في اليمن أوضاعاً وظروف هي الأسوأ على الإطلاق طيلة مسيرة ونشأة الصحافة اليمنية.
وليس ذلك فحسب بل تحولت وسائل الإعلام بكافة أشكالها إلى أهداف مشروعة لأطراف الصراع في اليمن، وخرجت المؤسسات الإعلامية من سوق العمل، فوجد معظم الصحفيين أنفسهم عاطلين عن العمل وأغلبيتهم لم يستلموا مستحقاتهم خلال فترة الحرب، باستثناء من يتبعون أطراف الصراع ومن يعملون تحت راية التحالف وأدواته في الداخل، الأمر الذي أدى إلى هجر الصحفيين لمهنة الصحافة، فضلاً عن تدمير ونهب أغلب البنى التحتية للمؤسسات الإعلامية، وتسبب ذلكَ بإغلاقها نتيجة غياب الإعلام المهني والاستيلاء على المباني التابعة لهم ومصادرتها ونهب معداتها، وبهذا اغتيلت الحقيقة بغياب المعلومات والأخبار ذات المصداقية والحياد.
هذا الأمر ساهم في تراجع التغطيات الملتزمة بقواعد وأخلاقيات المهنة لصالح الإعلام الحربي والأخبار المضللة، إلى جانب احتكار طرفي الصراع للمعلومات، وبث معلومات مفبركة خاضعة للآلة الإعلامية للحرب، بجانب تفشي خطابات الكراهية والمناطقية التي تنخر في جسد المجتمع اليمني.
وبالرغم من كمية الانتهاكات التي وصلت لحد القتل والتصفية الجسدية بحق الكثير من الصحفيين اليمنيين، والحرمان من حق مزاولة العمل الصحفي واجبارهم على الصمت، لا تزال تلك الانتهاكات والتجاوزات غائبة عن أعين الكثير من المنظمات الدولية المعنية بهذا الشأن، ولا تزال تلك الاعتداءات والانتهاكات قائمة على قدم وساق في ظل عدم وجود قوانين تطبق في اليمن وتنصف عمل هؤلاء الذين يضحون بأوقاتهم إلى جانب الشعب اليمني ومظلوميته، لتبقى حرية الإعلام واحترام حرية التعبير وحرية الصحافة مجرد شعارات لا ترى النور على أرض الواقع في اليمن.
كما واجه العاملون في ميدان الصحافة في اليمن، مخاطر كبيرة في إيصال المعلومة عبر وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة للكشف عن الانتهاكات التي يتعرض لها اليمنيين على يد جميع أطراف الصراع في اليمن، وعلى رأسهم ميليشيا الحوثي الإرهابية التي كان لها قصب السبق في اتباع سياسة تكميم الأفواه وقمع حرية التعبير ومنع وصول صوت الشعب اليمني المضطهد، لاسيما بعد انتفاضة الثاني من ديسمبر من العام ٢٠١٧م، وخلال السنوات الأخيرة أي بعد انتفاضة ديسمبر، تعرض العشرات من الصحفيين إن لم يكن المئات للاستهداف والقتل، والاعتقال، والخطف، والاعتداءات، خلال ممارسة حقهم الطبيعي في نقل الحقيقة ونقل الأحداث الجارية على أرض الواقع كما هي، الأمر الذي جعل من العمل الصحافي في غاية الخطورة، في ظل هذا الواقع المتهالك، وجعل من العاملين في مهنة الصحافة يواجهون تحديات كبيرة في سبيل نقل معاناة أبناء الشعب اليمني الساعي لنيل كرامته وحريته ومجد دولته وأجداده.
هذا ويجد الصحفيون اليمنيون صعوبات كبيرة لتأمين المعلومة ويكابدون المخاطر من أجل الكلمة و تشريع حرية إبداء الرأي في ظل حالة الانقسام واختلاف الجهات العسكرية المسيطرة على الجغرافيا اليمنية والتدخلات الدولية والإقليمية التي تعيشها البلاد، وتحريض القيادات ضدهم بأنهم أخطر من البندقية كما قال زعيم الحوثيين.
وهذا يقودنا للتساؤل، من منا نحنُ المُنتظرين لم يترجم الحقيقة في صياغة أحلامه وأوجاعه طيلة هذه الفترة؟! نحن المحكومون بالعَدم وشقاء الدم الازرق ” حبر مواجعنا والهموم” لا نملك أنفسنا اللاهثة خلف سراب هذه الحرب التي أنتفع الحوثي منها وأضرت بالمواطن وبمصالحه، جميعنا لا يملك عفوية جنود القلم وأحلامهم المؤجلة، تترصد الميليشيا أقلام الصحفيين وتقتلهم تارة، وتارة تعتقلهم، تتحين الفرص الدنيئة و اللحظات المبتذلة، والمواقف الرخيصة لترمي رصاصاتها بعبث صدور النخب وأحياناً جماجمهم.
من منا لم يُحارب أضغاث أوهامهم وهشاشة أمانيهم المُهشمة كالبلور على صخر الحياة، المبعثرة على سطح كوكب ضائع في مجرته، من منا لم يتحدث عن علاقة ميليشيا الحوثي بالإرهاب الفكري والدموي؟
من هنا فإنني أنصح الجميع باللجوء إلى الفضاء العام إلى الصحافة البديلة والاستفادة منها بعد استيعابها جيداً، والتجديد من خلالها في كل الأساليب، وطالما أن الحداثة هي البحث عن المجهول المطلق، والمجهول الجمالي المندثر فينا، فلا بأس إذا أبحرنا في بحار الإبداع على طريقة الأبطال اليونانيين، بحثاً عن عوالم جديدة أو أرض ما خالية نستعيد منها مجدنا، أرض مملوءة بالرغبة المجنحة إلى اكتناه الذات والوجود، أو ربما هي محاولة للتمرد على هذا الموت الإكلينيكي الذي أصابنا وأفقدنا بوصلة قضيتنا الوطنية.
إن الكتابة الإبداعية بحاحة دائماً إلى التغيير والرفض وتجديد الوعي المستمر، وما الصحافة الحُرة إلا صورة حية من صور هذا التغيير، والتجديد، الذي يضعنا دائماً أمام تحديات كبرى، وأمام طموح عظيم لا ساحل له، توحي به ثورة عارمة في الصحافة وحمل نارها ذات دم حار، كعمالقة الصحافة اليمنية، فرسان الحداثة وحُراسها الجُدد المحترقة أصابعهم بشمس ثورات التحرر الفكري وبندى سبتمبر وأكتوبر والـ٢٢ من مايو المجيد.