تهامة والإمامة.. قصة نضال
قصة النضال في اليمن تجاه أسوأ جماعة عنصرية سلالية عرفتها البشرية مختلفة عن كل قصص النضال في مختلف أرجاء المعمورة.
تناضل الدول والشعوب لسنة أو سنتين، لعقد أو عقدين، لقرن أو قرنين، وتحسم قضيتها التي تناضل من أجلها بصورة نهائية، عدا اليمن فإنها منذ العام 284هـ وحتى اللحظة في سلسلة مستمرة من النضال لم تتوقف سنة واحدة، عدا سنوات قليلة فيما بين الأعوام 1970 إلى 2004م، شهدت اليمن استراحة محارب فقط، لتعود لقصتها المؤلمة.
في الواقع نحن أمام أسوأ كهنوت سلالي عنصري لا مثيل له، تضرر بسببه الحجر والشجر والبر والبحر الإنسان والحيوان على حد سواء. وما نعايشه اليوم خير شاهد على ذلك.
عانت اليمن كلها بلا استثناء من هذه الجماعة الكهنوتية، غير أننا نلمح جورا طغيانيا مارسته هذه العصابة ضد بعض المناطق بصورة أبشع، مستغلة سلميتها وميلها للموادعة والمدنية والسلم المجتمعي، تهامة أنموذجًا.
إنّ كل يمني في نظر هذه الجماعة هو كافر حلال الدم والمال والعرض ما لم يؤمن بحقها في الولاية والسيادة والاصطفاء، ولهذا تستبيح من وقت مبكر دماء اليمنيين وأموالهم وأعراضهم، مستغلة جهل بعض الناس وعواطفهم الدينية، فهي تتسربل زورا بالدين، وتدعي أن تلك الامتيازات الممنوحة لها من الدين، في أسوأ عملية تزوير وتحريف للدين..!
لهذا تعرضت تهامة لأبشع عمليات الظلم والتنكيل والنهب خلال حكم الأئمة من هذا المنطلق؛ كونها سنية، شافعية، وفي تهامة تحديدا كانت تلك المقولة الشهيرة التي ذكرها العلامة المقبلي في العلم الشامخ: “..قالوا قد كانت الكلمةُ للجبر والتشبيه، وهما كفرٌ. فالدَّار دارُ كفرٍ اسْتفتحناها بسُيوفنا، فنصنع ما شِئنا، كخيبرَ ونحوها، حتى روى لي من لا أتهمُه أن رجلا، هو أفضلهم، وصَّى عاملَهم أن يتحيَّلَ في الأخذ إلى قدر النصف، كأنها معاملة؛ ولكن على وجه لا يُنفِّر. وكان الوالي على اليَمَنِ الأسْفَل، تعز وإب وجبلة وحيس وسائر تهامة يقول لهم فيما يبلغنا إذا شَكوا الجور: لا يؤاخذني الله إلا فيما أبقيت لكم”.! انظر: العلم الشَّامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ، صالح بن مهدي المقبلي، المكتبة اليمنية للنشر والتوزيع، صنعاء، 270.
وتذكرُ بعض الروايات التَّارِيْخِيَّةِ أن ولاةَ الإمَام المتوكل في اليَمَنِ الأسْفَل قد مَنعت أهلَها من الصَّلاة معهم، مؤتمِّين، لكونهم كفارَ تأويل! وقَدْ ظَلتْ تهامةُ وأيضًا أبين وعدن المصدر الرئيس، وربما الوحيد لاجتلاب الأموالِ للأئمة، خاصَّة الأئمَّة القاسِميين، من خلال ميناءيهما الشَّهيرين، “عدن والمخا” واللَّذَين يدران دخلا كبيرا من الضرائب وزكوات التجارة، في الوقت الذي يهيمنُ شبحُ الجوع والإفلاس والفقر فيهما، خَاصَّة تهامة، وليس لأهلهما إلا خدمة “المركز المقدس” واسْتضافة حاشيتهم وعُمَّالهم وولاتهم فقط، مع الأخذ في الاعتبار أن طَبيْعَةَ الاقتصاد يومها ريعيٌ إعاشيٌ وتقليدي، وغَلَّاتُه السَّنوية لا تكاد تكفي أهله.
وضمن حروبه التوسعية تجاه قبائل المشرق فقد ألزم الطاغية الإمام المهدي محمد بن المهدي أحمد، المعروف بصاحب المواهب أهل رَيْمَة وتهامة على تمويل هَذِه الحرب؛ حيثُ جمع عامله عَليْها كرائم أموالهم وادعى طيب نفوسهم، وفرض رسوما على من لم يشترك في الحرب.. انظر: اليمن في ظل حكم الإمَام المهدي، د. محمد علي دبي الشهاري، الجيل الجديد، صنعاء، 247.
وقَدْ أصدر الإمَامُ المنصور علي بن المهدي عباس مرسومًا بداية توليه الإِمَامَةِ بأن تُعتمدَ مخصصاتٌ ماليةٌ لقبائل “يام” من بعض مدن وموانئ تهامَة، كي تكفَّ هَذِه القَبَائلُ عن التَّمردات والخروج من مَناطقها. وكان إذا تأخر هذا “الجعل” السنوي سرعان ما تتحشد هذه القبائل للانقضاض على تهامة ونهبها على مرأى ومسمع من الإمام نفسه الذي يبيحها لهم. وكان مشايخ “باجل” يسلمون لهم سنويا ستمئة ريال فرانصي..!
وسكت الإمَامُ المنصور عن هجوم قبائل يام على قَبِيْلَة الزرانيق بتهامة عام 1224هـ، التي خلفت وراءها مجزرة مروعة هِي من أوحش المجازر التي راح ضحيتُها خمسمائة قتيل من الزرانيق، بمن فيهم رئيسُها، وثلاثمائة قتيل من الياميين، وقَدْ قُتلوا على أسَاس أنهم مشركون.. انظر: درر نحور الحور العين بسيرة المنصور علي وأعلام دولته الميامين، لطف الله جحاف، تحقيق عارف محمد عبدالله، 1183
وفي عهد الإمَام المنصور الحسين بن القاسم، ت: 1161هـ أرسل قبائل حاشد وبرط من بكيل سنة 1145هـ إلى مدينة “اللحيَّة” في تهامة، فنهبوها كاملة ودمروا دورها ومبانيها، وعاثوا فسَادا فيها، حتى لم يبق لأهلها إلا “الشِّمَال/ الخرق البالية” التي عليهم فقط، وبلغ خبر هَذا النَّهب الآفاق، وسَمعتْ به الخاصَّة والعامَّة، والإمامُ لم يحرك سَاكنا في ذلك، الأمر الذي جعل العلامة ابن الأمير ينظم قصيدة مطولة من خمسة وخمسين بيتا، ويرسلها للإمام المنصور بصنعاء من شهارة، ومنها:
يا ساكني السفح من صَنعاء هل سفحت
لكم على ما جرى في الدين أجفان
عن اللحية هل وافاكم خبر
تفيض منه من الأعيان أعيان
تجمعت نحوها من كل طائفة
طوائف حاشد منها وسفيان
وذو حسين وقاضيها وقائدها
درب الصفا وقشنون وجثمان
أسماء شر وأفعال مقبحة
طوائف ما لهم يمن وإيمان
فما يخافون من يوم المعاد ولا
عليهم لذوي السلطان سلطان
ولم تكن اللحية وحدها هِي التي طالها هَذا النَّهبُ فقط، بل لقد أشار إلى ما حصل لبيت الفقيه وهِي إحدى مدن تهامة وإلى الجنوب الشَّرقي منها، على يد قبائل يام من نجران، قبلها بثلاث سنوات، سنة 1142هـ، يقول:
وهل نسى أحد بيت الفقيه وقَدْ
صُكَّت بأخبار يام فيه آذان
كم من عزيز أذلوه وكم جحفوا
مالا وكم سُبيت خود وصبيان
فالنظم يعجز عن حصر لما دخلت
من المواطن في أخبار قد كانوا
انظر: تاريخ اليمن الحديث، الدكتور حسين عبدالله العمري، ط:1، 1984م، 97.
وذاتُ الأمرِ ـ أيضًا ـ مع قَبِيْلَة الزرانيق “المعازبة” من أرض تهامة، الذين غزاهم السيف أحمد، ولي عهد أبيه يحيى أواخر عشرينيات القرن الماضي بجيشٍ من القَبَائلِ من حاشد وبكيل واستمرَّ القتالُ معهم سنتين متتاليتين، حتى أخضعهم بقوة المال والسِّلاح لطغيانه، ولم يكتف بذلك فحسب؛ بل سَاق منهم بالأغلالِ مأسورين ثمانمئة أسير، وأراد قتلهم بالسَّيف، فاعترضَه والدُه على قتلهم جهارًا نهارا بالسَّيف، ولكن بطريقةٍ أخرى، فقتلهم بالسُّم جميعا خلال سَنة واحدة، ولم يبق منهم سَالما إلا الشَّيْخ سالم درويش الذي التقى لاحقًا في السِّجن بثوار 1948م، وحكى لهم داخلَ السِّجن ما جرى لرجالِ الزرانيق. انظر: ابن الأمير وعصره، صورة من كفاح شعب، قاسم غالب أحمد وآخرون، 72.
الإمام يحيى توحش جديد
وفي حرب الإمَام يحيى مع الزرانيق كان عساكره يرددون هَذا الزامل:
جاك سيـل الله يا صَاحِب تهامــة
مقدم السيف المظلل بالغمامــة
نضرب الزرنوق في داخل خيامه
راعد القبلة ورد شرفا وجرمل
وقد أقدم الطاغية أحمد حميدالدين على هدم ضريح الفقيه الصالح أحمد بن موسى بن عُجيل، في مَدينة بيت الفقيه بتهامة الذي تنتسب له المدينة، وذلك عقب هزيمة الزرانيق في الحرب الشهيرة بينهما، وفَرض على أهل المدينة أن يؤذنوا بـ “حي على خير العمل” في مَساجدها، مع أن هَذِه الزيادة ليست من معتقداتهم الدينية في مذهبهم الشافعي.
وفي واحدةٍ من الحماقاتِ التاريخيَّة، وسِيَاسَة الهمجيَّةِ والحقد التي اتَّبعها هَؤلاء أن عمدَ الإمَامُ يحيى عام 1928م، إلى مُصادرة الوقف على أكبر مَدرسَة دينيَّة، عُرفت عند البعض بجامعة الأشاعرة، كانت تُدرِّسُ مختلفَ فنون العلم، في زبيد بتهامة، ولمدينة زبيد شهرتُها العِلمِيَّة التي تجاوزتْ المحليَّة إلى القُطرية، وتوافد عَليْها آلاف المُريدين خلال مئات السنين، وتخرج منها آلاف العُلماء في مختلف المجالات، ولم يبق بعد تلك المصادرة، إلا المدارسُ الصغيرةُ، والكتاتيبُ الأولية؛ وتبع ذلك مصادرة العديد من أموال الأوقاف وإغلاق المدارسِ في أكثرِ من مكانٍ على طول اليَمَنِ الأسْفَل.! انظر: ثورة 26 سبتمبر في اليمن، إيلينا جلوبوفسكايا، دار ابن خلدون، بيروت، 154.
ومَنْ يتتبعْ سيرَ الأئمَّةِ ونشأتهم وتاريخهم السِّيَاسِي يجدْ أنَّ كلا منهم ـ تقريبا ـ قد عملَ قبل إمامتِه واليًا في اليَمَنِ الأسْفَل، إب، تعز، تهامة، ريمة، وصابين، عتمة، وخلالَ فترةِ ولايتِه يكون قد صَار المالُ عنده كالتراب، وكوَّن ثروةً ماديةً مهولة، يستطيعُ بها شِراءَ الولاءاتِ القبليَّة والعشائريَّة لاحقًا، إذا ما أعلنَ لنفسه الإمامَة، أو إخمادَ المتمردين والخارجين عليه بهذا المال؛ لأنهم يدركون جميعًا أن القوةَ هِي المؤهلُ الوحيدُ والحقيقي في الوصُولِ إلى الإمامَةِ، ومن بين هَذِه القوة قوة المال؛ حيثُ يقوم بتوزيعِه على القَبَائل والمقربين منه حتى يستنزفَه بصورة كاملةٍ أو شبْه كاملة، ليبدأ من ثم دورةً جديدة في التحصْيل والإثراء غيرِ المشْروع من جديد! وتذكرُ المصادرُ التَّارِيْخِيَّةُ أنهم كانوا يفرضون العقوبات المالية على تاركي الصَّلاة ومرتكبي الجرائم الكبرى كالزنا والسَّرقة والقذف، وغير ذلك، حتى صار وقوع الرعايا في هَذِه المعاصي أحبَّ الأشياء إلى العاملِ لأنه يفتح عليه بابَ أخذ الأموال، فيتكاثر عنده الحرام، ويتوفر له المقبوض.! انظر: اليمن في ظل حكم الإمَام المهدي، سابق، 239.
وماذا بعد؟
لا يزال الحال من بعضه، ولا يزال الحوثي اليوم يستجر سياسة آبائه وأجداده الكهنة منذ مئات السنين، في التعامل مع تهامة خصوصا، ومع أبناء اليمن عموما، وهو طبع وتطبع معا، نشأوا عليه نظريا، وطبقوه عمليا، فها هي مليشيات البغي الحوثية اليوم تعربد بتصرفاتها الرعناء في عموم تهامة، وتسومهم سوء العذاب، والتقارير الحقوقية المحلية والدولية شاهدة على عربداتهم هذه، إنما هذا لا يهمهم، فتفكيرهم الأساس هو: ما ذا أبقينا لهم؟!! ولسان الحال:
هذي العصا من تلكم العُصية
فهل تلد الحية إلا حية؟!
من صفحة الكاتب على إكس