السامعي يكتب عن وفاة أمه.. قريتي الصغيرة (القتب)
لم تعد تستهويني كما كانت. فقدت ثلاثة ارباع شغفي بها وحبي لها لأنني فقدت السبب الذي كان يجعلني متعلقاً بها الى حد الهوس والجنون ..فقدت امي .. بعد ان توفت بسبب جرح صغير في يدها ..تطور الى تسمم أصاب الكلى والرئة والقلب .
كانت أمي تعيش في القرية في غرفتين صغيرتين برفقه اختي
واخي الاصغر مني واختين اكبر مني
اضطرت أمي للإنتقال من المدينة الى القرية بعد انفصالها عن والدي.. كنت وقتها في سن الخامسة تقريباً.
اتذكر يومها عندما كانت امي تلملم أشياءها وملابسها وهي تبكي بحرقة واتذكرها عندما صعدت الى سيارة الصالون التي تم استئجارها لتأخذها الى القريه.
أتذكرها عندما حضنتني وقبلتني قبلات كثيرة .. وكانت تشتمني وتبكي .. وتقبلني وتبكي لأنها ستسافر وتتركني .
لم اكن استوعب وقتها ما يجري .. لا افهم ما هو الطلاق .. ولماذا الفراق ولماذا امي ستسافر .. لم اذرف دمعة واحدة بقيت صامتاً اراقب آخر لحظة بها. كانت اختي الكبيرة بنت العشر سنوات تصرخ في وجهي وهي تبكي وتقول .. وانت ليش ما تبكيش؟ ابكي يا كلب .. امي بتسافر وانت ساكت
لم اكن اعلم ان ذلك اليوم سيكون آخر يوم ارى فيه امي .. ولم اكن اعلم ان الليلة التي مضت ستكون آخر ليلة انام في حضنها.
لن اسمع صوتها بعد اليوم ولن ارى وجهها يشرق كل صباح بعد هذا الصباح .
وفي ليلة ذلك اليوم بدأت اشعر بفداحة الفقدان. واستيعاب الامر .. وبدأ الخوف والوحشة والحرمان تسكن صدري وتكبر يوماً بعد يوم ..كيف لطفل في الخامسة ان تودعه امه وترحل. كنت ارى الاطفال مع امهاتهم واتساءل لماذا انا ! لكن لا احد يمكنه ان يجيب . وكان اخي واختي الاصغر مني والاختين الاكبر مني الذين سافروا مع والدتي وتربوا في القرية .. كانوا يشعرون بنفس الشعور من فقدان الأب .. والعيش بعيداً عنه .. وفقدان الامان .
اما انا فقد عشت مع أسراب من الخوف والقلق والتخيلات والكوابيس المرعبة وكانت اشد لحظاتي معاناة وقسوة عندما يحين موعد النوم لكمية الخوف والكوابيس والتهيؤات التي كانت تحضر .. كنت لا اجرؤ على رفع البطانيه من على وجهي ..
واذا غامرت ورفعت غطائها .. كنت اراى كل يوم عند باب الغرفة كأن رجلين من دخان يقفان عند الباب يمسكان حربتين على شكل (X ) .. كأنهما يحرسانني ..
وقتها فقط اشعر بالأمان ويغلبني النوم ..
لعلهما قلب امي وروحها يحضران للتخفيف علي ومواساتي .
..
وهكذا تمر اغلب ايامي .. حتى يأتي عيد عرفة. فنستعد للسفر جميعاً لقضاء إجازة العيد في بيت عمي في القرية..
اتذكر السعادة التي كان تغمرني قبل كل عيد لأني سأسافر والتقي بوالدتي من جديد
يبدأ الجميع بتجهيز اشيائهم من ملابس العيد وغيره.
وابدأ انا بالبحث عن شيء آخر. ابحث عن أي شيء يمكنني ان اهديه لامي. ربما اجد هنا اوهناك خاتماً من حديد مرمياً لا احد يريده.
أو مشطاً .. او قباضة شعر .
فأنا ما زلت صغيراً جداً واحلامي بسيطة .. لكن حبي لها كان بحجم مجرة ..
وعندما بدأت اكبر قليلاً بدأت في تجميع مصروفي واستطيع الآن شراء مقرمة جديده او علبة بخور او رشه عطر رخيصة
اضع الهدية بين ملابس العيد واصعد سيارة الصالون ثم نسافر. حتى إذا ما وصلنا الى سوق الدمنة. ينزل والدي لشراء بقية الاشياء وانزل انا اشتري بما تبقى لي من افلاس نص درزن موز او قطعة هريسه او كيكة لكي اعطيها لأمي واختي الصغيرة ..
ماذا لو قلت لكم اني اكتب ما اكتب الآن ودموعي تتساقط رهبة وشوق وكأنني الآن اسافر اليها من جديد .
المهم يبدأ الصالون بسلك الطريق الترابي الوعر المؤدي للقرية وعندما نقطع بعض المسافة اتوسل والدي ان يسمح لي بالركوب في سقف الصالون فيرفض خوفاً علي من السقوط .
اعيد الرجاء والتوسل فيستجيب لتوسلاتي .. ويطلب من السائق ان يتوقف حتى اصعد وامسك بشبك الصالون ثم نواصل السفر..
لم يكن احد يعلم لماذا كنت اصر في كل مرة على الركوب فوق سقف في الصالون .. كان الشوق يغمرني للقاء امي وكانت زحمة الصالون والحديث المتبادل داخلها يفقدني جزء من تركيزي
و يحرمني من ان اعيش لحظات المسافة بكل تفاصيلها
وعندما اصعد وحيداً الى سقف السيارة اشتم رائحة امي تقترب كلما اقتربنا .. كنت احدثها كما لو كانت امامي
كنت اسمع نفسي وانا اقول لها خلاص يا امي وصلنا هذه القرية
خلاص يا امي مشينا من هذا الرون .. خلاص يا امي عدينا هذه الشجره .. باقي قليل ونصل .. الى ان نصل الى النجد وبعد النجد تظهر قريتنا .
وهنا يبدأ شعور آخر لا استطيع وصفه…وتتسارع الانفاس ويتضاعف الحنين … يستمر هذا الشعور حتى نصل القرية.. وتتوقف السيارة في آخر موقف لها فينزل الجميع من الصالون ويأخذون اغراضهم ثم يسلكون الطريق المؤدي الى بيت عمي بكل فرحة . بينما انا اتسلل خلسة واسلك طريقاً آخر .. هذا الطريق هو الطريق المؤدي الى بيت امي وليس الى بيت عمي. وفي هذه المسافة القصيرة المتبقية أقسم اني كنت أعد حتى الأحجار واتلمس الجدران والبيوت واعد الخطوات .. اعد حتى انفاسي لكي اصل بسرعة .
لم تكن امي او اختي و اخي الاصغر يعلم بموعد سفرنا
لهذا يكون اللقاء مفاجأً ..
اتذكر في احد الاعياد عندما اخبر احد الجيران اختي وامي أنه رآني من سطح منزله وانا في طريقي الى البيت فنادا اختي واخبرها
فهرعت تجري الى الزقاق ويديها ملطختان بالعجين لأنها كانت تساعد امي في “المنداد” او المطبخ .. وعندما رأتني صاحت والله انه صدق .. رشاد اخي اجا .. واحتضنتني بحرارة مع العجين الذي في يديها .
حتى اذا رأيت امي ارتميت في حضنها وغرست رأسي في صدرها و شممت رائحتها احاول ان اعوض ما فقدت .. وأعيد بناء روحي .. روح طفل فقد أمه في اشد المراحل احتياج اليها ..وامي تبادلني نفس المشاعر والاحتياج والدموع .
ثم تمر ايام العيد سريعاً كأنها تعاندني وتذكرني بموعد اقتراب سفرناوعودتنا الى المدينة .. وكلما اقترب موعد العوده تتضاعف معاناتي ويتضاعف الخوف عندي من جديد وتبدأ ندوب الروح تظهرمن جديد بعد ان كانت قد اندملت ويبدأ قلبي يبكي بحرقه.
يرسل لي والدي احد الاطفال ليقول لي الصالون مستني بسرعة لا تتأخر ..
.. ولا اشد وقتها من سماع هذه الرسالة .. ورؤية هذا الرسول
الملم اغراضي بعدها بسرعة وتجمع اختي ملابسي من فوق الاحجار بعد ان قامت بتصبينها وتجفيفها في اليوم الأول.
ثم احتضن امي الحضنة الأخيرة والدمع لايتوقف من كلينا ..والسؤال الكبير يكبر اكثر واكثر .. لماذا انا .. لماذا يا أمي .. لماذا لا نكون معاً .. لماذا الفراق .. لا اريد ان اعود للمدينة واتركك يا امي
وهي نفس التساؤلات التي تسألها امي لنفسها والدموع تغمر عينيها .. فتحتضنني وتقبلني وتشتمني .. وتستودعني الله .. استودعتك الله يا ابني .. انتبه لنفسك ولدراستك ..
وهكذا عشت عمري انتظر العيد في كل عام ..
حتى كبرت وكبر معي جرح كبير لا يمكن تجاهله او تجاوزه ..
حاولت مراراً اقناع امي ان تترك القرية وتأتي للعيش معي خاصة مع كبر سنها .. وبعد ان اصبحت قادر على تحمل المسؤلية ..
إلا انها كانت ترفض برفق وبلطف .. وتدعوا لي بالبركة .
حتى جاء العام الذي ترحل فيه امي وتودعنا للابد . . عام ٢٠٢٣
ماتت امي ورحلت ..
بعد ان قضيت معها اكثر من اسبوعين لكن في مستشفى الثورة اثر الاصابة في يدها ..
حضنتها وحملتها واكلتها واسقيتها بيدي لكن على سرير المرض .. وفي آخر ايامها حتى فاضت روحها ..
ركبت سيارة الاسعاف التي حملت جثمانها الطاهر من المغسلة
الى المقبرة .. ركبت الى جوارها في سيارة الاسعاف.
ووضعت راسي على صدرها للمرة الاخيرة وبكيت طويلاً ..
وفي المقبرة .. تجرأت يداي على دفنها و إهالة التراب عليها.
.. يالحقارتي ..
كانت امي تحبني ..وكانت تتمنى لي الخير حتى وهي في كفنها
وفي لحدها .. كنت اشعر بنبضات قلبها وإن كان قلبها قد توقف
.. وكنت أراها تنظر الي وإن كانت عيناها مغمضتين
كنت اشعربلمسه يديها وارى ابتسامتها رغم انهم قد سدوا باب لحدها واهلوا عليها التراب ..
لن اجرؤ ربما بعد رحيلها ان اسافر الى القرية .. لن اجرؤ على الدخول الى خلوتها الصغيرة .. لن اجرؤ على النظر في مكان جلوسها .. وتذكرضحكاتها .. وخبز يديها ..
كانت لي قرية عندما كنتِ فيها يا امي .. اما الآن فهي مجرد ذكرى جميلة لا اكثر ..
رحمة الله عليك يا امي .. يا حبيبة القلب ومهجة الروح يا فاطمة الردمانية
اللهم اني حرمت حضنها في الدنيا .. فلا تحرمني حضنها في الآخرة.
*من صفحته في فيس بوك.
.