منبر حر لكل اليمنيين

الوطنية.. براهينها في الأرض لا في السماء

42
الوطنية -كما يدل اسمها- براهينها وطنية محلية داخلية، في الأرض لا في السماء.

وحتى البُعد الخارجي من الوطنية -العلاقة مع الخارج- يقاس هو الآخر بمقياس وطني محلي داخلي، مقياس دنيوي أرضي.

لا فضل في الانحياز لمثال خيالي غير قابل للتحقق في التجربة.

الفضيلة الوطنية هي أن تكون بالقرب من الموقف الذي تشعر أنه يجمع بين الصواب والقابلية للتحقق المادي في مجرى التاريخ.

ليس الصواب المطلق، بل الصواب الممكن،

وليس الممكن الذهني المطلق بل الممكن العملي الموضوعي، وقد نسميه “الممكن التاريخي”.

باختصار، أن تكون بالقرب من الموقف -أو الاتجاه- الذي يستقر في ضميرك أنه:

1) الأكثر نفعاً للناس قياساً إلى غيره.

2) والأكثر قابلية للتحقق على الصعيد الوطني الكبير.

وضع ابن خلدون قاعدة نعرف بها صدق أخبار الماضي من كذبها وذلك بإعمال العقل والفطرة لتمييز الممكن والممتنع من الأمور في الإطار الكلي للطبيعة وللوجود الإنساني.

يقول في المقدمة: “فليرجع الإنسان إلى أصوله وليكن مهيمناً على نفسه ومميزاً بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته فما دخل في نطاق الإمكان قبله وما خرج عنه رفضه وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق فإن نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حداً بين الواقعات وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء فإنِّا إذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه”.

هذه القاعدة تصلح أيضاً لمعرفة الممكن والممتنع، الصادق والكاذب، من الآمال والتصورات التي يزينها للعوام كل دجال ومخادع في الحاضر عن المستقبل.

وحتى لو لم يخبرنا ابن خلدون بهذه القاعدة، فنحن بفضل تجربتنا العملية القاسية صرنا نعرف بلدنا أكثر، نعرف الممكن والممتنع فيه، وعلى أسس أكثر تواضعاً بتنا نثمن الأعمال والأقوال أو نحتقرها، وميزان الصواب والخطأ لم يعد آلة معلقة في الفراغ الذهني الرياضي خارج شروط الزمان والمكان.

لقد كتب أرسطو ساخراً من أفكار ومخططات سقراط المعروضة في كتاب الجمهورية لـ أفلاطون فقال: “ينبغي أن يتخذ المرء لشرعه ما يشاء ولكن لا ما يستحيل”.

يجب أن نهتدي إلى حقائقنا الأبدية، لكي نتصرف سياسياً باعتدال في حدودها، فنعود من جديد بلداً طبيعياً ممكناً، صالحاً للعُمران، متفاعلاً بشكل إيجابي مع نفسه ومع الخارج، متصلاً مع أرغد ثمار الحضارة الإنسانية، بلا عَظَمَة فارغة ولا جنون إمبراطوري “مهدوي”، خارق، لكن أيضاً بلا هوان البليد وضعة الغافل.

نريد تحرير علاقة الداخل بالخارج من طبقة الأوهام المعبودة التي تضطهدنا.

لا نريد أن نكون “مقبرة للغريب”، ولا حضناً وثيراً دافئاً لبغي القريب وشروره.

لا نريد أن نكون مقبرة لأيّ شيء، فالمقبرة تأكل القريب والغريب دون تمييز.

علينا أن نجد طريقة ممكنة نتصالح بها مرة أخرى مع ما لا يسعنا تغييره من حتميات الموقع والمكان، لأنّه لا شيء أكثر عبثاً وإسفافاً من الإمعان في التصدي بلا بصيرة للأحكام الكبرى النهائية المهموس بها منذ الأزل على لسان قوى الطبيعة الأم؛ الريح والشمس والصخور الصلدة والعشب الزائل على التربة العطشى، والجبل المفلطح مثل شاهدة قبر، والزوابع الرملية فوق السطوح الفسيحة الجدباء.

*نقلا عن نيوزيمن

تعليقات