منبر حر لكل اليمنيين

مات أخي فانطفأت

36

في رثاء شقيقي الأستاذ الدكتور حسين محمد الحلالي. 2-4

أما بعد: من هو الاستاذ الدكتور حسين محمد الحلالي؟

كانت مهنته الامتياز، وكانت حرفته المروءة.
عشت أنا على هذه الأرض لأكثر من خمسة عقود، خلال جميع أيامها لم أعرف ولم أر حسين إلا مميزًا، متميزًا، وفي الصفوف الأولى على الدوام؛ ليس بين أقرانه فحسب، بل بين الكبار أيضًا. كفته ما انفكت ترجح كفتنا جميعًا في الإنجاز والعمل وفي مكارم الأخلاق. عاش بوقار، وغادر بجلال بعد أن نهض بمهامه على الوجه الأمثل، وأنجز شغفه بالأسلوب الأنبل. أستطاع بحدس دقيق وبموهبة نابغة أن يأخذ نصيبة برفعة من الدنيا، وأن يضع شروط حسن العاقبة ولقاء الله موضع الفعل.

لم تكن حياته ترفًا؛ لم تكن دنياه عطالة؛ ولم يكن يومًا ضمن جوقة الفائضين. كانت حياته فيض وفائض؛ فيض من نور وبر، وفائض من علم وعمل.

موت الكبار إحدى مفردات الحياة؛ موت فيه بعث وخلق؛ بعث لمعان جديدة نتمثّلها، وخلق لقيم أصيلة نتكئ عليها ونجدد العهد لها.

أتقن حسين كل فنون السمو، وأجاد كافة أدوات الشرف. وبذات القدر استغرقه شغفه كجراح حتى طيّع المشرط فانبرى بين يديه أداة تضع الشفاء على الأجساد، وريشة ترسم على الشفاه الحبور.

منذ بواكيره الأولى لا نعرفه الا متفوقَا في دراسته. درس الطفل حسين على يد المربي الكبير المرحوم عبد الله الخروش في كتّاب الحارة، واتقن فنون الرياضيات وأوليات الدين وعلوم اللغة نحوًا وصرفًا وبلاغة وأجاد اللغتين الروسية والإنجليزية.

على خلاف كل الأطباء، خط يده أجمل من أن يوصف؛ يكتب الرقعة بأجمل ما يكون عليه خط الرقعة، وله إلى ذلك في النسخ باع.

حسين كان صنيعة ثلاثة رجال، الثالث هو ذاته. الأول كان جدي أم والدتي الفاضل أحمد بن أحمد السنيدار، والثاني والدي الدكتور محمد حسين الحلالي. سمى ولداه باسم جده وأبيه تيمنًا وعرفانًا.

رافق جده منذ بواكير صباه حتى هال عليه التراب. لم يكن لجدي أولاد سوى والدتي، فكان حسين الابن الذي انعقدت عليه كل آمال الجد، ولم تخب فيه الآمال حتى اصطفاه ليكون وصيه. تعلم من جدي السماحة وطيب الخاطر وتعلم من أبي الرجولة والترفع عن الصغائر.

درس الثانوية العامة في جمهورية مصر العربية؛ وكعادته – لا يبرح حسين التفوق ولا يبرح التفوق حسين. أنجز معدلاً مرتفعًا في الثانوية العامة في المدارس المصرية أهله لدراسة الطب، فالتحق بوالدي لدراسة الطب في الاتحاد السوفيتي، ومضى في رحلة العلم حتى منتهاها دون تعثر أو تلكؤ حتى عاد حاملًا أعلى الدرجات العلمية – الدكتوراه في أمراض وجراحة العظام.

أخي كان عازفًا عن المناصب؛ وأكبر منصب تقلده هو رئيس قسم جراحة العظام في مستشفى الثورة بصنعاء.

في أحد الأيام، شغر منصب مدير الهيئة العامة لمستشفى الثورة العام في صنعاء. اقترح عليه زملاؤه أن يعمل على الحصول على المنصب. جاء إلي يستشيرني، فرحبت بالفكرة وشجعتها عليها واقنعته بها. وقلت له تلك فرصتك لاقرب تشكيل للحكومة. كان خائفًا على مهنته كطبيب من أن ينالها العطب. أقنعته بخلاف ذلك. بدأت بالتخطيط للموضوع. تحدثت إلى الأستاذ الشهيد عبد العزيز عبد الغني رئيس مجلس الشورى – عندما كنت مديرًا لمكتبه – الذي وعد بطرح الموضوع على رئيس الجمهورية رحمهم الله جميعًا. خططت بعد ذلك كيف أقنع كل من رئيس الوزراء ومدير مكتب رئاسة الجمهورية ووزير الصحة، وأخبرته عن خطواتنا القادمة وأننا – أنا وهو – سنبدأ بسلسلة من اللقاءات المهمة. كان يستمع إلي وهو ساكت.

بعدها بيوم، اتصل بي تلفونيًا وقال لي: – ” اصرف النظر عن الموضوع، أنا طبيب وأستاذ جامعة وبس، وصاحب المهرتين كذاب.” وبعد أن أكمل جملته، قال “كان الموضوع همًا فوق كاهلي ورميته.”

علاقة حسين بالله كانت دائما وثيقة. تدّينه من النوع النادر والراقي. لم يكن الدين لديه أيديولوجيا سياسية؛ لم يكن أيضًا سجنًا مذهبيًا. تدينه فيه شيء من تصوف وشيء من منطق. فيه إحسان المتصوفة دون طريقة، وفيه عقلانية معرفة الله دون ريب. كان حبه لله يتمثل في “أعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.” كان يختزل الدين بعد الإيمان في أمرين؛ حسن المعاملة ومكارم الأخلاق. لذا لم يعط بالًا للمتاجرين بالدين من الكهنة وتجار الدين. وكان يرى في بساطة وتلقائية القاضي محمد اسماعيل العمراني مصدرًا للإلهام.

الموت مهمة شاقة ومعقدة، لا ينهض بها كما ينبغي إلا أولو العزم. وكان حسين أهلا لهذه المهمة المعقدة والأخيرة. أستطاع حسين، متكئا على صالح أعماله وسلامة إيمانه وحسن ظنه بالله أن يقنع بارئه أن يجعل موته آخر انتصاراته، فاستجاب له بارئه ولم يحرمه من خير خاتمة يتوق إليها مؤمن.

ترجل بعد حياة ليس كمثلها حياة في معناها ومبناها. عاش حياة السعداء، وغادر كما يغادر النبلاء والصالحين.

حياة لا يجرؤ كل أصنام السياسة والمال المعطوب والجاه المزيف حتى أن يتخيلوها. كان متفرداً في كل شيء حتى في وفاته.

قصة الدكتور حسين ليست سوى قصة نجاح لإنسان ذي مروؤة يجب أن يرويها كل أب يريد لأولاده الخير.

الحزن في هذا المقام كبير، والرحيل المباغت غير عادل. لكن يجب إلا ينال الحزن منا أكثر مما يستحق؛ الحزن هنا هدر للمعنى ومضيعة للفكرة. هنا مقام العرفان. العرفان لرجل لم يكن إلا خيرًا لكل من عرفه. جميعنا يموت، لكن قليل منا ينتصب كسارية ترفرف عليها راية مكارم الأخلاق حين يغادر.

قال الله تعالى: – ” …. واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري، واشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا، قال قد أوتيت سؤالك ياموسى.” صدق الله العظيم.

فقدت شخصًا واحدًا، لكن يخيل إلى أن العالم بعده بات مهجورا.

لك الرحمة ولروحك السلام والخلود يا شقيقي.

يتبع الجزء الثالث.

تعليقات