منبر حر لكل اليمنيين

كاتب مغربي ينتظر 50 عاما ليصدر مجموعته القصصية الاولى

36

في عمله السردي “الكتاب الآخر” الصادر حديثاً عن دار “الكلمة” المغربية، يجعلنا عبدالهادي نعيم نطرح السؤال الآتي: “هل للكتابة عمر؟”، فهو انتظر خمسة عقود ونصف العقد ليصدر مجموعته القصصية الأولى، هو الذي بدأ الكتابة مع مطلع التسعينيات، متفادياً ما أمكن، عكس مجايليه، كل سبل النشر. إنه ينتمي إلى الفئة التي لا تقنعها كتاباتها، وتظل تخفيها عن القراء أملاً في كتابة أفضل.

إن هاجس تجويد الكتابة يشغل كثيراً من المؤلفين، فيكون عاملاً أساسياً في تأخر الإصدار الأول، وفي التباعد الزمني بين كتاب وآخر. لقد أصدر ابن حزم كتابه الأول “الفصل في الملل والأهواء والنحل” وهو في الـ56، ومات وهو في الـ70. لم يتجاوز عمر الكتابة لديه 14 سنة، لكن لا أحد يستطيع اليوم أن يتجاوز في الكلاسيكيات العربية كتاباً في غاية الأهمية عنوانه “طوق الحمامة”. وفي عصرنا الراهن لم يصدر الكاتب المغربي إدمون عمران المالح عمله الأول “المجرى الثابت” إلا وهو في الـ63 من عمره، وبأعمال قليلة ترسخ اسمه بين كبار أدباء عصره. وقد انتظر الكاتب الإيرلندي فرانك ماكورت بلوغ 63 سنة ليصدر روايته الأولى “رماد أنجيلا”، التي فازت في العام التالي بجائزة بوليتزر.

ثمة نماذج لكتاب تأخروا في إصدار أعمالهم الأولى، انتظروا في الأقل تجاوز الـ40 سنة من أعمارهم قبل أن يشرعوا في نشر كتبهم، لكن هذا التأخر لم يقف عائقاً في طريق التحقق والحضور والتداول. ونستحضر على سبيل التمثيل تشارلز بوكوفسكي وفيليب بولمان وتوني موريسون وجورج إليوت ومارك توين ومارسيل بروست وهنري ميللر وريتشارد آدامز ولورا إنغالز وايلدر ومحمد شكري وخيري شلبي وغيرهم.

الطفولة المتسامحة

في “الكتاب الآخر” تتصدر الطفولة تيمات المجموعة القصصية، وتشكل مدخلاً لقراءة وفهم التحولات التي تعرفها شخوص الكتاب. وربما شكلت العودة للطفولة تقاطعاً مع التأخر في الكتابة، فثمة مسحة من النوستالجيا تغطي النصوص. إن الراوي البالغ ينسحب أحياناً ليترك للأطفال بناء التفاصيل وتصريف المواقف. يبحث الكاتب عن شرعية لهذا الاختيار في ما هو ديني، إذ يضع العبارة التالية عتبة أولى للكتاب: “والمسيح قال خذ الحقائق من أفواه الأطفال، فهم سيدخلون ملكوت السماء”. لكن الأطفال لا يملكون الحقيقة في الضرورة، ولا يتوفرون على الأجوبة، غير أنهم جريئون في طرح الأسئلة. في حوار بالنص الأول من المجموعة تذكر الطفلة أن جدها أشار مرة إلى أن الأطفال عندما يموتون يتحولون إلى ملائكة، غير أن الطفل رد عليها: “جدك طيب. لكن جدتي تقول إننا شياطين”. يطرح الكاتب على لساني الطفلين الهاجس الميتافيزيقي الذي يشغل الإنسان ويؤطر وجوده، ويشكل مساحة توتره الدائم بين ما يعليه إلى الطهرانية وما يدنيه إلى نقيضها.

يستدعي نعيم كتاب “كليلة ودمنة”، ويتقاطع معه، ناسجاً صورة طفل قادر على إحراج الفيلسوف بيدبا، كما لو أنه يريد أن يثبت للقارئ بأن الحكمة ليست حكراً على الكبار. فالكتاب الآخر الذي قدمه الطفل للحكيم بيدبا، عوضاً عن كتابه “كليلة ودمنة”، هو سرد آخر لما يقع في حياتنا، من ثم رواية بديلة عن روايات البالغين ورؤية مختلفة عن رؤاهم، وربما تكون هي الرواية الحقيقية والرؤية الأنسب.

تبدو الطفولة كما لو أنها خيط ناظم يسبك نصوص الكتاب ويتحكم في مجرياتها. ومن تيمة الطفولة تتفرع تيمات صغرى ملازمة لها: اللعب، المدرسة، العقاب، البكاء، الخيال، التساؤل المستمر والتفسير البريء للظواهر. إن الطفولة عند عبدالهادي نعيم منبع الكتابة ومصبها، هي بمثابة مرجعية تتشكل منها فلسفة الكاتب، وهي في الآن ذاته الوجهة التي ينشدها بما هي رمز للبراءة والنقاء والوجود المبني على الانطلاق من دون توجسات ومحاذير، ومن دون توقع للفجيعة.

في نص “رؤيتان في الظلام” يعالج الكاتب تضارب الرؤى المتعلقة بموضوعة الزمن. تحضر الطفولة لا باعتبارها رمزاً للبراءة وامتداداً للصور النمطية التي شكلتها تمثلاتنا عن هذه الموضوعة، بل كاختبار وجودي يحاول الطفل من خلاله التجاوز السريع لطفولته، في إشارة صريحة إلى رفضه لهذه المرحلة العمرية، التي ينظر إليها الجد في المقابل نظرة مبطنة بالحنين والحسرة، كما لو أنه يقول بلسان الشاعر الفرنسي هنري باربيس: “أوقفه. أوقف الزمن الذي يمر”.

في نص “سيرة الشقاء” تتشكل صورة الطفل ياسر من التراجيدي والكوميدي، ما بين مشهد أولي يؤطره الفقر والتسول ومشهد هزلي في نهاية النص. إن المأساة والملهاة هما مجرد كلمتين على لسان طفل، من ثم فهما تتماهيان وتتداخلان على نحو يعفي الطفولة من محاكمة كل ظرف اجتماعي، ويسبغ عليها صفات التسامح والتجاوز.

فضلاً عن الطفولة يحفل “الكتاب الآخر” لعبدالهادي نعيم بتيمات يبدو كما لو أنها مستقاة من تجربته الشخصية: الحياة الريفية، الفقر، الصداقة، القلق، الموت، القدر. غير أن الطفولة تشكل النواة التي تتفرع منها هذه التيمات، وتشكل في الآن ذاته المنظار الذي يعتمده الكاتب وهو يعالجها.

بلاغة الجمل القصيرة

بنى عبدالهادي نعيم قصصه على مفارقة سردية، فقد توسل الجمل القصيرة من أجل وصف مسهب لشخصياته وللأحداث المرافقة لها. ثمة رغبة واضحة لدى الكاتب في أن يكون سرده، كما وصفه، دقيقاً. ولعل هاجس الدقة ينعكس أيضاً على بناء الجمل، فهي متخففة من تراكم التوابع واللواحق. فبدل ترصيف المركبات الوصفية يلجأ نعيم إلى الفعل ليكون أداة سرد ووصف في الآن ذاته. في نص “ملائكة نحن الأطفال” نقرأ هذا النموذج: “وخزها الطفل بأحد أقلامه. فكت القيود. أمسكا بيدي بعضهما. ضحكا، وأخذا يركضان”. وفي “ظل شجرة الخريف” نقرأ هذا النموذج: “أختك تغار مني. أخي لا يرغب في الزواج منها. أختك قالت. أمك فعلت. عندما تخرج أبقى وحيدة، هما تعتزلاني. عندما تعود فقط أرتاح. أرتاح قليلاً. أمك وأختك تكرهاني. أمك أعزها، أختك أشفق عليها. وأنت حبيبي. حبيبي، هل اشتريت لي ما طلبت منك؟”. فحين يقوم برصد تعقدات العلاقات الاجتماعية لا يسبغ أية صفة مباشرة على الزوجة، ولا على الأخت والأم موضوعي خطابها، ولا على الزوج الذي يشكل وجهة الخطاب. إنما يترك للقارئ، انطلاقاً من السرد، مهمة ترتيب الصفات وتنضيدها إلى جانب الموصوفات. وتكاد الجمل القصيرة التي يعتمدها نعيم في بناء نصوصه، بشكل تحضر فيه التوازيات الإيقاعية والقفلات المرسلة، ينحو بهذه النصوص جهة قصيدة النثر، نقرأ في نص “أيام الحزين” نماذج لذلك: “ملامحك تذبل. جسدك ينهار. رجلاك تحملانك على طريق الفناء… الأنين صوت الزمن الخائن، يوم عالق بيوم”. وفي نص “علقمة ليس شاعراً” نقرأ نموذجاً للتشبيهات المتعاقبة: “صديقي أنشدنا قصيدته، كطفل فرح بلغته البدائية، كشاب ولج سرير الرغبة للمرة الأولى، كعجوز وقف على أعتاب الموت ثم دامت له الحياة”.

في نصوصه السردية القصيرة يبدو الكاتب مشغولاً بالهاجس الثقافي، حيث تغترف هذه النصوص من المتون الأدبية والدينية، لا لتحاكيها أو تخلق امتداداً لها، بل لتساؤلها وتشوش عليها أحياناً. فالكاتب مولع على ما يبدو بخلخلة الثقافة الثابتة لدى المتلقي، ويكفي أن نقف عند بعض عناوين نصوص الكتاب: “بيدبا ليس حكيماً”، “علقمة ليس شاعراً”، ثم نقف في داخل النصوص على قلب كثير من المعطيات المترسخة في ذهن القارئ، والمرتبطة بشخصيات وتفاصيل تاريخية وثقافية يعمل الكاتب، متوسلاً حيلة الطفولة، على إخراجها من كل إطار تحده الطمأنينة المعرفية.

تعليقات