مات أخي فانطفأت
في رثاء شقيقي الأستاذ الدكتور حسين محمد الحلالي. 1-4 الجزء الأول.
أما قبل: الفاجعة.
كنت ليلتها أكابد حمى شديدة الوطأة.
تلك الحمى اللعينة كانت ترعشني رعشًا لليليتين كاملتين كأنها سكرات الموت،
فقدت توازني جزئيًا، وخفتت قدراتي الذهنية.
كعادة الحمي، تبدأ بالإنسحاب مع الخيوط الأولى للفجر وكأنها هوام وجان الليل تعود إلى الشقوق والجحور والعتمة خشية من النور، فيعود إلي توازني ويراودني النوم رويدا.
أخرست جوالي كي أنال قسط من النوم بعد ليلة قاسية لم تجد فيها كل كمادات زوجتي الفاضلة ولا مسكنات شركات الأدوية الألمانية الى شفائي سبيلا.
عند الدقيقة 12:31 ظهراً من يوم الجمعة المشؤوم اتصل ابن أختي الحبيب عمار السنيدار، لكن تلفوني كان صامتًا.
أعاد الاتصال بعدها بدقيقتين دون جدوي فاتصل بزوجتي التي لم ترد أيضًا، فترك لها رسالة صوتية باكياً:-
“يا خالة بلغوا بابا جلال أن بابا حسين تعبوا قوي؛ أسعفناهم المستشفى، حصل لهم جلطه قوية وشل الله حقه.”
سمعتها زوجتي في الحال فكانت فاجعتها كبيرة، كانت ترى حسين كأخيها الأكبر. تمالكت ولملمت شتات روحها ودخلت غرفة النوم وأيقظتني وقالت: –
جلال: “قوم اشرب الدواء.”
قلت لها: “شربته قبل أن أنام.”
قالت: اتصل عمار وقال أخي حسين تعب وشلوه المستشفى.
عرفت أنها محاولة فاشلة لتجزئة الفاجعة وتقطيع المصيبة. لم يساورني شك أن هذا هو الخبر الأخير عن أخي.
داهمني فزع لم أعرفه من قبل،
وسألتها: مات أخي؟
قالت متلعثمة: نعم، سكتة قلبية.
فقدت الإدراك والسمع والبصر؛ فقدت حواسي كلها، أمسيت كقطعة لحم سُحبت منها كل خيوط أعصابها. تعطلت كهرباء العقل وشُلت كيمياء الإدراك. عقلي توقف عن التفكير؛ أنفاسي تثاقلت وتباعدت، عيوني لم تعد تستطيع الرؤية. لم أعد أرى زوجتي الواقفة أمامي إلا خيالاَ.
شعرت أن روحي حُشرت في أنبوب ضيق ومظلم، وكأنني في أهول يوم القيامة.
عندما بدأت أستوعب ما حدث، فكرت بأمي. لم أستطع أن أمد يدي إلى التلفون كي أتصل بها.
يا إلهي، ما الذي يحدث الآن لأمي!
المرأة التي لا تُنادى إلا يا “أم حسين.”
أم حسين الذي مات تواً.
أمي؛ المرأة التي لا تسير في عامها الثاني والثمانين إلا متكئة على حسين.
كان أعز دعاء لها ” أسأل الله أن تكون ساعتي قبل ساعتك يا حسين. أسألك يا الله ألا يوسدني التراب في اللحد سوى حسين.”
كان حسين بالنسبة لها كل رهاناتها.
احتفظت به لكل حياتها لتعيش عزيزة، وادخرته ليكون موتها كريمًا بين يديه.
عرفت شخصيًا كل مصائب الدنيا بالتجربة أو بالمعرفة أو بالخيال، لكن مصيبة كمصيبة أمي ليس كمثلها شيء.
ما أقسى القدر حين يجبر امرأة طاعنة في السن أن تدفن إبنها.
فكيف يمسي الحال عندما يكون الفقيد في مقام رجل مكتمل الأركان كالدكتور حسين الحلالي!
على مدار ثلاثة أيام تلت، أتصل بأمي مرات عديدة يوميًا وهي تقول لي جملة يتيمة واحدة ” حسين مات يا جلال، حسين مات يا جلال؛ كان أبي بدل أبي. عقمت النساء أن يلدن مثلك يا حسين.
مصابك جلل يا أماه.
لك العزاء والصبر يا أماه.
أي حرقة، أي قهر، وأي مصيبة أحاطت بهذه المرأة المكلومة!
اتصلت بزوجته وبناته وأولاده؛ اتصلت بإختيّ ووجدتهم جميعًا في حالة فزع يكابدون أهوال يوم القيامة.
في اليوم المشؤوم – كعادته – نهض أخي من سريرة باكراً واستهل يومه بقراءة القرآن استعدادًا للخروج لصلاة الجمعة.
باغتته النوبة في الساعة العاشرة والنصف تقريبًا، فاسعفه ابنه البار محمد حسين إلى مستشفى النخبة. وصل المستشفى وهو ما زال واعيًا. قام الأطباء بعمل تخطيط قلب. طلب من الطبيب أن يرى تخطيط القلب، فتردد الطبيب أن يعطيه التخطيط لكن أخي ألح عليه.
عندما رأي أخي تخطيط القلب أيقن أنها النهاية وأنه على مشارف لقاء الله وأبيه والأحبة السابقين.
وبعد أن حاول الطاقم الطبي في الطوارئ بالقيام ببروتوكولات الإنعاش – التي ما هي إلا وسائل تعذيب للمريض قبل موته – أخذ أخي النفس الأخير ونفخه بقوه ففاضت روحه الطاهرة إلى بارئها تاركة وراءها أسرة مكلومة، وعائلة منكوبة، وحزن كبير بهذا الرحيل المباغت وهذا الغياب الفاجع وهذا المصاب الجلل.
رحل حسين في وقت نحن جميعًا أحوج ما نكون إليه، الجميع يفتقده ويبتهل بالدعاء له.
رحل صائم الدهر، تالي الفرقان، قائم الليل، خصيم الخطايا، مفارق اللمم، واصل الرحم، قاضي حوائج الناس، مخفف آلام المرضى، راعي الأيتام؛ رحل الرجل الذي اكتملت انسانيته.
كانت جنازته كرنفالًا سماويًا استثنائيًا احتفت الملائكة والأنبياء والرسل والصديقين بمقدم سيد من سادات الفضل وأحد حاملي رايات الفضيلة.
تداعى الناس بإعدادٍ غفيرةٍ من كل حدب وصوب تهفو أرواحهم إلى وداع روحه الملائكية. تهافتوا لإلقاء نظرة أخيرة على جثمانه الطاهر. أتوا من كل فج عميق في فجر يوم ماطرٍ، منهمرة مأقيهم كالمزن لحضور الصلاة الأخيرة على روح أنقى ما حملت الأرض على ظاهرها وأطهر ما أحاط ترابها في باطنها.
أتوا جميعًا امتنانًا لصاحب المروءات، وردًا لمعروف كامل الخُلق لا يبغون من وراء ذلك جزاءًا ولا شكورا.
تلك الجنازة ذات دلالة، وذاك الوداع ذو معنى.
دلالة لا تخطئها قريحة سليمة، ومعنى لا يلتبس لدى صاحب لب رشيد.
دلالتها أن الله أحب عبده حسين فاصطفاه إلى جواره واختاره إلى صحبه أوليائه.
ومعناها أن من أحب الله أحبه الناس، ومن أحب الناس أحبه الله.
تلك مكانتك يا شقيقي لا ينالها إلا ذو حظ عظم.
لقد نجوت يا أخي برحمة الله، وقبلنا بلاء الله وامتحانه.
بعد موت أخي لم تعد حياتي كما قبله.
قلبي ينفطر حزنًا لأني لم ألثمك وأقبل قدميك الطاهرتين.
المكلوم حتى ألقاك،
جلال.
يتبع الجزء الثاني.