الولاية بين الحكمة والسلطة
الولاية مرتبطة بشؤون الناس، والحكمة مرتبطة بحسن التصرف، والسلطة مرتبطة بالقوة، وفي أساطير الأولين ونقوش القدماء وتقاليد القبيلة يقترن لقب من يتولى أمر الناس بالحكمة، وينفتح اللقب على دلالات التقدم في العمر الذي رآه أصحاب النواميس شرطاً لاكتساب هذه الحكمة.
وفي لغة العرب تشترك لفظتا «الحاكم» و«الحكمة» في الجذر الثلاثي «ح ك م» الذي ينفتح كذلك على دلالات الدقة والانضباط والقياس، وكذا الفصل والقضاء والقوانين والتشريعات، كما ينفتح هذا الجذر الثلاثي كذلك على دلالات أخرى مثل الطبابة والمعالجة، ومن هنا جاء تسميات الحاكم/الوالي، والحاكم/القاضي، والحكيم الذي ينزل القضايا والأشياء منازلها، والحكيم/الطبيب، وهذا يعكس ارتباط ولاية أمر الناس بالحكمة والمعالجة والمواساة، وكل الدلالات التي ينفتح عليها الجذر الثلاثي «ح ك م».
وقد أولت الفلسفات والأديان الحكمة قدراً كبيراً من الأهمية، إذ هدفت الفلسفة إلى تجلية الحكمة، كما جاء في وصف الإله في الإسلام ـ على سبيل المثال ـ بأنه «الحكيم» وفي اتصاف الإله بالحكمة تحفيز للإنسان على السير في مسالكها، وتشريع للإنسان/الحاكم – على وجه الخصوص ـ بأن يتحلى بهذه الصفة، نظراً لطبيعة المهمة التي يضطلع بها من يتصدى للشأن العام، وضرورة اتصافه بالحكمة اللازمة.
وفوق ذلك، يسمى الحاكم/الوالي في الأعراف القبلية «الشيخ» وهي لفظة مقترنة بالتقدم في العمر، إذ يسمى من يتقدم في العمر شيخاً، حيث يفترض أن تورِّث الشيخوخة أو التقدم في العمر الإنسان الحكمة التي تؤهله لتولي مشيخة القبيلة.
كما تسمي بعض القبائل من يتولى شؤون القبيلة «العاقل» وهي لفظة مقترنة كذلك بالحكمة، ما يشير إلى أن الأسلاف ربطوا بشكل قاطع بين تولي أمور الناس من جهة ومقتضيات الحكمة والعقل والعدل والمساواة والنظم والقوانين والأعراف والتقاليد، من جهة أخرى.
ومع ذلك يبدو أن الألفاظ والدلالات المذكورة خاصة بمستوى معين من التنظير في هذا الحقل، وهناك ألفاظ أخرى تنفتح على سياقات دلالية مغايرة، وتشير إلى زاوية نظر أخرى في فهم طبيعة الوظيفة السياسية والولاية العامة، وتختلف من حيث التعقيد الدلالي والوظيفي عن سياقات «الشيخ والعاقل والحاكم/الحكيم» ومن ذلك ألقاب: السلطان والملك والأمير والرئيس، وهي ألقاب عادة ما ترتبط ببنية سياسية أكثر تعقيداً من بنية القبيلة، وهي بنية الدولة، بتراتبية السلطة فيها، وتعقيد منظومتها، وسعة أهدافها ومهامها.
وتأتي ألقاب مثل: «السلطان والملك والأمير والرئيس» لتنطلق من حقول دلالية مختلفة عن تلك التي تدور حولها مفردات الحاكم والشيخ والعاقل، وهذه الألقاب تدور حول ثيمات السلطة والملك والإمارة والرئاسة، وهي ثيمات مرتبطة بالغريزة أكثر من ارتباطها بالعقل، أي مرتبطة بـ«السلطة» أكثر من ارتباطها بـ«الحكمة» على المستويات الدلالية، ذلك أن سعة رقعة الدولة، وتعقيد روتينها الإداري يميل بسلوك الحاكم إلى السلطة والملك والإمارة والرئاسة، وهي ملكات مرتبطة بغرائز البشر، أكثر من ارتباطها بحكمة الإنسان.
فلقب السلطان يستدعي «التسلط» ولقب الملك يستدعي «التملك» ولقب الأمير يستدعي «التأمر أو إصدار الأوامر» ولقب الرئيس يستدعي «الترأُس أو التموضع في المقدمة» وهي دلالات متمحورة حول الذات لا الآخر.
وإذا كانت مفردات الحاكم والشيخ والعاقل مرتبطة بسياقات القبيلة في أصل وضعها، فإن مفردات السلطان والملك والأمير والرئيس مرتبطة بسياقات الدولة، لتنتقل الدلالات من المستوى البسيط في الإدارة والحياة إلى المستوى الأكثر تعقيداً، وهذا الانتقال يعكس رغبة الإنسان في الانتقال من طور الحاكم الحكيم إلى طور السلطان المتسلط، أو الرغبة في الانتقال من طور «شيخ القبيلة» الذي يعد فرداً منها ـ إلا فيما يخص حجم مسؤولياته ـ إلى طور «سلطان السلطنة» الذي يتميز عن الشعب في كل شيء، ويعد مسؤولياته امتيازات لا واجبات.
ولأن الدلالات المرتبطة بالحكم انتقلت من الحكمة إلى السلطة فإن صاحب هذه السلطة على مر التاريخ يحاول توظيف كل الوسائل والأفكار والعقائد والأيديولوجيات لصالح تثبيت سلطته، وقد رأينا كيف وظّف الحكام القوة والمال والدين والأيديولوجيا بطرق مختلفة لضمان خضوع الناس لهم والتسليم بسلطتهم، حيث يلعب الدين ـ خاصة ـ دوراً محورياً في قوة السلطة، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته أن «الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة».
ومن هنا بدأ التأسيس لسلطة الملك/الإله أو الملك/نصف الإله أو الملك/ابن الإله، في الأديان والأساطير القديمة، وشهد التاريخ «الأسر الملكية» التي تحدرت من «سلالات الآلهة» والتي امتزجت بدماء تلك الآلهة المقدسة، وتسمى الملوك بأسماء آلهة، واختفت لدى بعض الثقافات والعقائد الحدود الفاصلة بين الإله والملك، وذلك في مسعى لإبرازه مميزاً عن غيره، تحيط به هالة من القداسة والقدرات الخارقة التي تبثها لدى العامة آلة دعاية إعلامية ضخمة، كانت تتمثل في طبقة الكهان والشعراء وغيرهم، ممن يمجدون الملك/الإله الذي يجب أن تخضع له الرقاب.
والهدف من تلك الدعاية هو تكريس تميُّز الحاكم عن الشعب، والهدف من تمييز الحاكم عن الشعب يتمثل في الرغبة في التسلط عليه وإخضاعه بالقوة والقهر، والرضى بتحكمه في السلطة والثروة، على اعتبار أن تلك هي مشيئة الله التي لا يجوز الخروج عليها، وأن الحاكم هو قدر الأمة، وسلطان الله وظله على الأرض، وغيرها من تسميات تلقب بها حكام كثر من حضارات شتى.
وعلى مدار التاريخ كان الحكام يتقلبون بين الحقلين الدلاليين المذكورين آنفاً: حقل الحكمة وحقل السلطة، وقد شهدنا حكاماً رأوا في السلطة حكمة وعقلاً ومداواة ومواساة ونظاماً وقانوناً وعدلاً وإنصافاً، وهي الدلالات المرتبطة بألقاب الحاكم/الحكيم، أو الحاكم/الشيخ، أو الحاكم/العاقل، وهم الذين جعلوا خدمة القبيلة/الشعب هدفهم في الحياة.
وفي المقابل شهد التاريخ حكاماً اقتربوا من مفاهيم السلطة، وابتعدوا عن الأنساق الدلالية للحكمة، وربطوا أنفسهم بدلالات التسلط والتملك والتأمُّر والترأُس، وجعلوا تشديد القبضة على السلطة والثروة هدفهم الأساس، وهو الأمر الذي أدى إلى انعدام التوازن بين هدف الحفاظ على مصالح الناس بالحكمة والحفاظ على بقاء الدولة بالسلطة، ومن هنا يأتي الخراب الذي يعم الحاكم والمحكوم.
https://www.alquds.co.uk/الولاية-بين-الحكمة-والسلطة/