منبر حر لكل اليمنيين

أمية المتعلمين

42

القليل ربما سمعوا بكاتب وناقد مصري اسمه محمد مندور.

عام 1944م كتب هذا الرجل مقالة رائعة في مجلة الرسالة بعنوان “أمية المتعلمين”، دعا فيها إلى مكافحة ثلاثة أنواع من الأمية: الأمية الأبجدية والأمية العقلية وأمية المتعلمين.

وانتهي في مقالته إلى التأكيد بأن أمية الأبجدية، القراءة والكتابة، هي أهون أنواع الأمية.

وفي أحد كتبه، يحاول المفكر المغربي عبدالله العروي إيجاد رابطة بين كلمتي “الأم” و”الأمية”.

يقول العروي إن الصبي يخضع لتربية تشبه تماماً تربية الحيوان، نوع من الترويض والتدجين. يُسمَّى هذا الطور “التربية الأولى”؛ تهذيب النوازع الحيوانية.

والقائم على ذلك “الأم” أو من يحل محلها، فالأم هي حلقة الوصل بين الطبيعة والمجتمع.

إذا صح هذا الربط، فـ”الأمية” هي جمود الشخص عند تربية الأم لا يتعداها.

و”الأمي” هنا ليس “الجاهل”، وإنما هو الشخص المُثقل في أعماقه بتأثيرات “التربية الأولى” مهما تقادم به العمر، واتسعت معارفه، وتعددت تجاربه، فالتربية في هذه الحالة تغلب التجربة!

هذه “الأمية” المترسبّة في اللاوعي تكشف عن نفسها فجأة في أدق تصرفات الكثير من المتعلمين النظاميين من حَمَلَة الشهادات والرُتَب؛ أكاديميين، ومحامين، ومهندسين، وأطباء، وكتّاب، وسياسيين، رغم أنهم نالوا حظاً وافراً من النجاح والترقي المهني والاجتماعي في المجال العام، أي في ذلك الحيز الذي من المفترض أن ينتقل فيه الفرد من الوضع النفسي والأخلاقي الوراثي المحدود -أي ينتقل من روابط الأمومة- إلى الروابط العمومية القائمة على التبصر الفردي والاختيار.

وهكذا، فالأمية “الغميسة”، الطافحة من الأعماق، تصلح أحياناً لتفسير نكوص بعض المجتمعات العربية إلى التجزؤ “الهوياتي” الممهور بالدم وذلك بسبب غلبة “الموروث” على “المُكتَسب” من الروابط والغرائز والعادات والأخلاق والنزعات والصفات.

يقول العروي مكرراً -دون أن يقصد- فكرة محمد مندور: “ترتفع الأمية لا بإتقان الكتابة والقراءة ولا بحفظ مقولات عن الكون والإنسان والماضي… بل عندما يستقل المرء بذاته ويرى فيها المادة التي يشّد بها الكيان السياسي”، (ديوان السياسة، ص148).

قبل ذلك كان العروي قد قرر أنه “لا ديمقراطية مع الأمية: القاعدة صحيحة، لكن في مستوى محدّد، مستوى الدولة الوطنية.

كل مقومات هذه الدولة تناقض الأمية أي ثقافة الأم. لا جدال في أن الأمية، التربية الأولى، تعرقل بلورة الوعي بالمواطنة وما تستلزم من اعتزاز بالنفس واستقلال بالرأي والتحرر من عقال الأسرة والعشيرة والقبيلة”، (ديوان السياسة، ص126).

وفي موضع آخر يقول: “لو كنا قد انسلخنا عن الفطرة منذ قرون، لو كانت التربية النظامية قد قضت على تربية الأم، لو كان قد تم ما أسميناه بالفطام، لكانت اليوم لهجتنا واحدة، قاموسنا غزيراً تأويلنا للعقيدة متجانساً، لكان فهمنا للمصلحة العامة تلقائياً، لضبط العقل فينا الغريزة أو لعمل الاثنان فينا بالقوة نفسها أي لعشنا في محيط مدني. وعندها لما كان داع لتمييز مستويين المحلي والمركزي، العشائري والوطني”، (ديوان السياسة، ص135).

من نافل القول إن الأمية التي وصفها مندور والعروي واحدة من الآفات الكبرى في اليمن.

*نقلا عن نيوزيمن.

تعليقات