منبر حر لكل اليمنيين

يتغير الحكم على الأشياء بتغيّر مقياس النظر

37

دون أن يقصد، يعبِّر أمين الريحاني بدقة مدهشة عن السهولة التي يتغير بها حكمنا على الأشياء إذا نحن غيَّرنا مقياس النظر، فهو يقول: ‏”نظرتُ إلى بيروت بعينٍ رأت مُدُنَ أوروبا وأميركا، فاستصغرتها وندبتُ حظَّها، ثم نظرتُ إليها بعينٍ شاهدت غيرها من مدن سوريا، فأحببتها وأكبرت شأنها”.

هذا ما يمكن قوله عن الحكم الجمهوري في اليمن، فإذا نظرنا له بعين رأت نظم الحكم في الغرب استصغرناه وحطينا من شأنه، وإذا نظرنا إليه بعين شاهدت ما كان قبله وما جاء بعده أحببناه وأكبرنا شأنه.

قبل سنوات الانهيار والحرب في اليمن، كان هناك طريقتان أو مقياسان يُستعملان في تقويم الوضع العام في البلاد، وكل واحدة منهما تنتهي إلى نتيجة مختلفة عن الأخرى.

الطريقة الأولى هي قياس الأحوال في الداخل اليمني بالأحوال في الخارج، وبالأخص البلدان المتحضرة، فتبدو أحوالنا بالقياس إليها غاية في السوء والقتامة.

كان هذا القياس أداة فعالة في متناول كل من يبحث عن إثارة أقوى مشاعر السخط والتبرم الشعبي ضد السلطات.

وهو ما يفسر اعتماد قوى المعارضة عليه في دعايتها وحركتها وأدبياتها السياسية.

الطريقة الثانية هي قياس أحوال البلد في الحاضر بأحواله في الماضي.

نتائج قياس كهذا كانت تقوِّي موقف السلطة الحاكمة وتعزز شرعيتها. والسبب أن “حاضر” البلاد في ذلك الوقت سرعان ما يبدو مزدهراً ومتوهجاً من جميع النواحي إذا ما قُورِن بما كانت عليه الأمور في الماضي.

كانت ثورة 2011م هي اللحظة التي انتصر فيها المقياس الأول على المقياس الثاني.

لكنه نصر مؤقت.

والآن بأي مقياس يجب علينا أن ننظر إلى الأحوال في عموم البلاد؟

وما النتائج التي سننتهي إليها؟

الأحوال مزرية وفظيعة وتثير الشعور بالكرب والاختناق، سواء حكمنا عليها بالقياس إلى ما كان بالأمس [هنا] في هذه الرقعة من العالم (ماضينا القريب في مقابل حاضرنا)، أو بالقياس إلى ما هو كائن اليوم [هناك] في معظم بُلدان العالم الخارجي، المتحضر منها والنامي والغني والفقير على حدٍّ سواء.

والحق أن ماضينا القريب لا البعيد -على الرغم من كل ما اعتراه من نقص وضعف وفساد- هو فقط ما يبقي في النفس أملا حيا بشأن المستقبل.

لا تفكر في السفر بعيداً إلى عصور أقدم وأبعد من الزمن الجمهوري باحثاً عن نماذج وأمثلة تاريخية تدل على أن السوية الوطنية والأخلاقية اليمنية قد ظهرت في صورة أرقى مما ظهرت به خلال نصف القرن الذي سبق الحرب والانهيار.

لن تجد. صدقني.

على العكس، يتبخر كل أمل وكل رجاء بشأن المستقبل ما أن يتوغل المرء في الماضي الأبعد فالأبعد.

كان ابن تيمية يفرِّق بين نوعين من الإمكان:

إمكان ذهني (مجرد)، وإمكان خارجي (واقعي).

نفهم من هذا أن الإمكان الذهني نسيج في الفراغ، يستند فقط على عدم العلم بامتناع الشيء في الواقع، “وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بالإمكان الخارجي، بل يبقى الشيء في الذهن غير معلوم الامتناع ولا معلوم الإمكان الخارجي، وهذا هو الإمكان الذهني”.

في حين أن الإمكان الخارجي يستند على العلم بالإمكان الحسي في الخارج، “والإنسان يعلم الإمكان الخارجي: تارة بعلمه بوجود الشيء، وتارة بعلمه بوجود نظيره، وتارة بعلمه بوجود ما الشيء أولى بالوجود منه، فإن وجود الشيء دليل على أن ما هو دونه أولى بالإمكان منه”.

ولهذا فإنني لا أحكم على حاضرنا بالقياس إلى “ممكن ذهني” يقع خارج حدود الإمكان التاريخي المادي لليمن.

إن وضع اليمن قبل سنوات الحرب والانهيار هو مرجعيتي القياسية في تقويم الحاضر من جوانبه المختلفة.

وإني على استعداد للتهاون حتى في استعمال هذا المقياس، لإدراكي صعوبات وتعقيدات جمة طرأت بسبب الحرب.

إن التذكير بـ”الممكن” التاريخي القياسي السابق للانهيار والفوضى والحرب هو تذكير بأفق سياسي وأخلاقي ووطني من المفيد الاسترشاد به واستئناف التواصل المعرفي والعملي مع أفضل البدايات التي شكَّلت تلك التجربة، وذلك لقناعتي الراسخة بأن العلاقة العملية مع المستقبل، كما يقول مارسيل غوشيه، هي التي تغير العلاقة النظرية مع الماضي، وأن هناك قدرة جديدة على التفكير في المستقبل، تختبىء وراء القدرة على الرجوع للماضي.

تعليقات