منبر حر لكل اليمنيين

سوداوية فبراير وقُبح الحصاد

82

الحديث عن أيام نكبة فبراير بتلك العاطفة الغبية لا تحتملها أوضاعنا الراهنة، ثلاثة عشر عامًا مريرة تنقضي وواقعنا اليوم يبدو شديد القسوة، مشهد الحرب بات طاغياً، وخريطة الاقتتال بالغة التعقيد والخطورة، “حرب الكل ضد كل ما أنجزه الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح” وعلى حد وصف صديق جزائري قال لي ذات مساء، أنه عجز عن فهم هذه الخريطة وتقلباتها، خريطة الحرب في اليمن وخريطة التحالفات التي أتت تباعاً، قلت له في ردي عليه، حتى نحن اليمنيين الذين أنهكتنا الحرب والتهجير وضيق الحال لم نعد نفهم حقيقة كل هذه الخرائط، ما بين وسائل إعلام محلية وإقليمية مهيمنة، وأدبيات المنظمات الدولية، التي تسعى لفرض واقع مُعين يكون المواطن اليمني فيه إما وقوداً لهذه الحرب، أو متسولاً في طابور المنظمات والمساعدات الإنسانية.

يجد اليمنيون جميعاً أنفسهم محاصرين بسرديات عن “صراع دموي” نعرف جميعاً كيف وصلنا إليه، وعن “نزاع مسلح” يتم تجهيل المسؤوليات الأساسية فيه، وعن حتميات قدرية تنتظرنا في هذه البلاد، تجعل تحررنا من قبضة الفاشيات الدينية المتطرفة مجرد فخ لوقوعنا في شرك الحوثي وفاشيات دينية ناشئة، في كل هذه السرديات يشغل “قادة فبراير” الصدارة في الحديث عن “الأزمة ” اليمنية التي كانوا سبباً رئيسياً فيها، والتي أصبحت اليوم لا جذور ولا سياق لها.

لقد قادنا فبراير لصراعات عديدة، صراعات لا حصر لها، داخلية وخارجية، بخطوات كانت جداً مدروسة ومعد لها سلفاً بل ومرتب لها بتدبير مُريب، كل هذا كان في سبيل الوصول للسلطة عبر الانقلاب على الدستور وللقضاء على النظام السياسي آنذاك الذي حاول لآخر اللحظات تجنيب البلد الحرب، ولكن كان لفبراير رأيه المُغاير وحدثت الحرب وجثم الحوثي على صدر الجمهورية بركبتيه.

ورغم كل هذا إلا أن بعض المغفلين مازالوا متشبثين بعدالة نكبتهم، التي مازالوا يصرون على تسميتها ثورة!! فيما سرديات أُخرى تقول أن خلف خريطة هذا الاقتتال أن لا كارثة تاريخياً عرفتها بلادنا يماثل انخراطنا في فوضى فبراير وما تلته من أحداث دموية، وبرغم من أننا ما زلنا نقبض بصلابة على هذه السرديات التي توثق الأحداث وما مر به اليمن، إلا أن هنالك حكايات أُخرى تقول كل شيء عن أحوالنا في عهد صالح الشهيد، وعن زمن متدفق ومتغير أفسده فبراير وأدخلتنا في سلطة الاستبداد بعد أن كنا قضينا عليها إلى الأبد.

مع انقضاء العام الثالث عشر لنكبة “فبراير” هناك مواجهة أُخرى مفتوحة ومفروضة على اليمنيين المؤمنين بضرورة معالجة أخطاء فبراير، إنها سرديات الثورة المضادة في مواجهة عبث فبراير وما خلفته من مشاكل عديدة وملفات معقدة، وفي مواجهة سرديات تعتمد الحرب الناعمة فقط توصيفاً وحيداً لاختزال حكايتنا كلها، إنها معركة توثيق وكتابة وتدوين لحماية ذاكرتنا التي اختزلت مشاهد سقوط دولتنا وانهيارها على أيدي قطيع فبراير، حماية ذاكرتنا للتذكير بعدالة قضية حريتنا التي أضاعها فبراير، من المُبكر جداً إعلان الهزيمة في هذه المواجهة، إن فعلنا ذلك ستكون خيانة كبيرة لمن رحلوا عنا وهم يهتفون للحرية والوحدة ولثورتي سبتمبر وأكتوبر.

شخصياً لم أتخل عن عاطفتي ولا أريد التحدث هنا كباحث سوسيولوجيا لأن الحديث عن مرحلة ما بعد ٢٠١٠م هو حديث عن ذكريات مأساوية عشناها، وعن ليالي سوداء لم ننم فيها، وعن عذاب ما زال لم يؤرقنا.

يقول أحد ضحايا فبراير، يُخبرني أخي الذي لم أراه منذ أكثر من ست سنوات، بأنه سيعبر البحر في قارب مطاطي، بعد أن وصل تركيا ليلحق بي بنفس الطريقة التي وصلت بها إلى “هولندا” يُغلق الهاتف ولا يريد سماع رفضي لطريقة عبوره البحر، يكتفي بكلمات عاطفية عميقة لي، ويوصي أبنائه الثلاثة في حال غرقه عليهم الاعتماد على أنفسهم، غرق أخي في البحر بعد يومين فقط من حديثي معه، إذ ليس سهلاً ضياع ست سنوات من عمرك بعيد عن أقربائك وانتظار غرق من تحبهم، شعرت وكأن رأسي فارغاً وأنا أستمع له وعيناه تفيضان من الدمع، ولا قدرة لي على النقاش أصلاً، ماذا تستطيع أن تقدم لأم خسرت منزلها وولدها وكل ما تملك ولا تريد خسارة ابنها الآخر، لقد أجبرت نكبة فبراير الكثير من اليمنيين على رحلة شتات بداخل المدن اليمنية وفي دول العالم والإقليم، لم يبق سوى أمل اللجوء في أوروبا للكثير من اليمنيين حتى لو كان ذلك يقتضي عبور البحر في قوارب مطاطية، كأن نكبة فبراير تُعلمنا بأنه لا أمل لليمنيين سوى عبور البحر.

تعليقات