منبر حر لكل اليمنيين

الهادوية.. نظرية سياسية لا مذهب فقهي

30

اختلاط المفاهيم يؤدي إلى اختلال التطبيق، وخطأ المدخلات يفضي ــ حتما ــ إلى خطأ المخرجات. ولا يستقيم الظل والعود أعوج. هذه من المسلمات العقلية التي لا يختلف فيها اثنان.

أتوقف عند هذه الحقائق متسائلا: هل الهادوية ــ نسبة إلى الهادي يحيى حسين الرسي ــ مذهب فقهي، مثله مثل بقية المذاهب الأخرى من حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية؟ أم أنها نظرية سياسية للحكم، مثلها مثل النازية والفاشية والشيوعية في صبغتها الستالينية؟!

هذا ما تجيب عنه هذه السطور..

أقول: الهادوية ــ المنتسبة للإمام زيد بن علي نسبة اعتزاء فقط ــ ليست مذهبا فقهيا، وإن حاولت أن تبدو كذلك، لأنها لا تشبه مذاهب الفقه الإسلامي الأربعة في شيء، لهذه الأسباب:

1ــ مذاهب الفقه الإسلامي مدارس معرفية، علمية بالمقام الأول، تأسست داخل أروقة المساجد، ومعتمدة على مناهج في المعرفة. مرجعيتها كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2ــ انتشرت هذه المذاهب بواسطة طلاب العلم في مختلف الأصقاع، غير ملزمة الآخرين بها، ولا تعتبر نفسها دينا، بدليل رفض الإمام مالك، إمام المذهب المالكي، أن يكون كتابه “الموطأ” المرجعية الأولى “دستور الدولة” في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، معتبرا ما ورد فيه رأيا، قابلا للخطأ والصواب، على حد سواء.

3ــ مذاهب الفقه الإسلامي الأربعة قابلة للتطور من داخلها، باعتبار الأحكام الشرعية تختلف باختلاف الزمان والمكان، بدليل أن للشافعي مذهبين: قديما في العراق، وجديدا في مصر. وبدليل اعتبارهم أن ما جاؤوا به معطى بشري قابل للخطأ والصواب، لا معطى إلهي مقدس من السماء، فلم يخلطوا بين الشريعة والفقه.

4ــ لكل مذهب من مذاهب الفقه الإسلامي الأربعة منهج في المعرفة وقاعدة في الانطلاق، كاعتماد أبي حنيفة على الرأي أولا في حال عدم وجود نص صريح صحيح، ما لم أعْملَ رأيه في المسألة، وذلك لكونه في العراق، بعيدا عن المدينة، وفي زمن حصل فيه التزيد والخلط والانتحال، ولم يقبل إلا ما تواتر من الحديث فقط، إلى حد أنه لم يقبل إلا سبعة عشر حديثا، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته. وعلى النقيض منه انتهج الإمام أحمد بن حنبل نهجا آخر، معتمدا على النص، فيما كانت هناك عملية تزاوج بين المنهجين لدى الإمام مالك والشافعي.

5ــ كل أئمة المذاهب الفقهية، لم يسفكوا دما محرما، أو يتقلدوا مناصب سياسية؛ بل لقد تعرض أغلبهم للأذى والظلم من حكام عصرهم.

6ــ كل مذاهب الفقه الإسلامي لم يورثها مؤسسوها لأبنائهم وأحفادهم من بعدهم، بل تأثر بها طلاب العلم الذين كانت صلتهم بهم علمية، ثقافية، معرفية. فلم نسمع عن نجل الإمام أبي حنيفة أو نجل الإمام مالك أو نجل الإمام الشافعي أو نجل الإمام أحمد بن حنبل وارثا للمذهب بعد أبيه، ولا للمنصب، ولا حتى للمكانة الروحية أو العلمية، إلا أن يكون شأنه شأن أي طالب عالم آخر..

أما الهادوية، فليست غير نظرية سياسية للحكم، كل ما ينقصها النظر، وإن غالت في التنظير، لهذه الأسباب:

1ــ الهادوية نزوة سياسية ورد فعل نفسي منفعل من قبل العلويين الذين اضطهدهم بنوعمومتهم الأمويون والعباسيون، بسبب خروجاتهم السياسية وثوراتهم التي أقلقت الدولة الإسلامية وهي في طور التكون والنشوء. ومن يقرأ “مقاتل الطالبيين” للأصفهاني يدرك مدى الهوس والجنون الأحمق بالاندفاع نحو الحكم بلا آلية أو مشروعية من قبل شباب العلويين وأتباعهم الذين استغلوا بعض مظاهر الفساد في الدولتين الأموية والعباسية، ومن ثم تقديم أنفسهم باعتبارهم البديل الصالح حد ادعائهم، وأنهم الأولى بالحكم بنص سماوي مقدس، مع الإشارة هنا إلى أن فكرة الأفضلية الهاشمية داخل البيت القرشي الواحد قد بدأت من قبل الإسلام، منذ “الشباب الحُمس”.

2ــ الهادوية نظرية سياسية فرضها يحيى حسين الرسي بالقسر والإكراه من فوق سرج الخيل، وبالقوة القاهرة، كما هو الشأن مع أية نظرية سياسية للحكم، تُحكم قبضتَها بالحديد والنار، حاصدا آلاف الرؤوس وقد دمر الممتلكات وأحرق المزارع وهدم البيوت هو وأتباعه، وحين تسنى له الحكم هو وبنوه من بعده عززوا هذه النظرية وأسندوها بقوة الدولة. ولم نعرف مذهبا فقهيا انتشر بالسيف وفُرض من فوق ظهر الخيل قبل ذلك. وبقدر ما رفض الإمام مالك أن يكون كتابه “الموطأ” المرجعية الدستورية للدولة في عهد أبي جعفر المنصور، تعصب الهادي يحيى حسين لنظريته وآرائه وجعلها مرجعية الدولة الأولى. وأن علمه علم آل البيت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن من خالفه فقد كفر. وفتاواه التكفيرية للأعيان وللهيآت تملأ كتبه، وخاصة سيرته التي كتبها ابن عمه علي بن محمد العلوي.!

3ــ الهادوية نظرية متصلبة، لا تزال حتى اليوم على ذات الرؤى والأفكار التي وضعها مؤسسها الأول يحيى حسين الرسي، فلم تتغير ولم تتبدل، وخلاصتها: “أنا سيدك وأنت عبدي، أحكمك أو أقتلك”. ورغم مرور ما يزيد عن 1200 عام إلا أنها لا تزال كما هي في نسختها الأولى، لم تتغير أو تتطور؛ بل إنها غير قابلة لذلك. فآراء الرسي هي نفس آراء أحمد بن سليمان أو عبدالله بن حمزة أو المطهر بن شرف الدين أو القاسم بن محمد أو المتوكل على الله إسماعيل أو يحيى حميد الدين؛ بل نفس رؤية فتى الكهف عبدالملك الحوثي. وللقارئ أن يتخيل مدى التقديس لإمامهم الأول حين يقول عبدالله بن حمزة: إننا نهاب نصوص الإمام الهادي كما نهابُ نصوص القرآن الكريم.! ووفقا لما أشار إليه نشوان بن سعيد الحميري، فقد كانوا يقدمون نصوص أئمتهم على نصوص القرآن الكريم:

إذا جادلت بالقرآن خصمي أجاب مجادلا بكلام يحيى

فقلت: كلام ربك عنه وحي أتجعل قول يحيى عنه وحيا؟

4ــ لا نستطيع القول أن للهادوية منهجا في المعرفة، أو أساسا في التعاطي مع القضايا، كما جعل الإمام أبو حنيفة الرأي منهجا أولا، وكما جعل ابن حنبل النص قاعدة في الحكم. لذا نرى الهادوية متخبطة تارة بين العقل بلا ضابط، وتارة بين النص بلا منهج، فهي تعتمد أضعف النصوص حجة ما دامت تخدم فكرتها، وتتغاضى عن أوضح النصوص وأجلى القياسات الأخرى التي لا تتفق معها؛ بل إنها تعتسف النصوص في تأويلاتها اعتسافا بلا إشارة لغوية واضحة أو قرينة من قرائن المجاز اللغوي المعروف. فمثلا يفسر بعض أتباع هذه النظرية الآية الكريمة: (مرج البحرين يلتقيان. يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) بأن البحرين هنا: علي وفاطمة، وأن اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين..! ولله في خلقه شؤون.

5ــ من يستقرئ تاريخ النظرية الهادوية منذ بواكير فجرها الأول وحتى اليوم يكتشف ــ بلا عناء ــ سيلا من الدماء وتلالا من الجماجم التي سالت بسبب هذه النظرية التي تأسست أصلا بالسيف، ولا تزال الدماء تسفك بسببها حتى اللحظة، وهذه الصفة من طبيعة النظريات السياسية لا من طبيعة المذاهب الفقهية التي لم تُسفك بسببها قطرة دم واحدة، وإن تعصب بعضهم ضد بعض في فترة من الفترات؛ لكنه تعصب لم يفْض إلى الاقتتال والتحشيد وسفك الدماء، كما هو الشأن مع الهادوية التي تعتبر الدم شريانها الوحيد الذي يمدها بالبقاء. كما تعتمد العنف وسيلة للسيطرة، كما يعبر عن ذلك صراحة مؤسسها الأول الرسي شعرا بقوله:

الطعن أحلى عندنا من سلوة كر الجوامس حين طال ظماها

والروس تُحصد بالسيوف ألذ من بيضاء ناعمة تجر رداها

والسائلات من الدماء فواغرا عظمت فقسط الزيت لا يملاها

أشهى وأعجب من صبوح مدامة في القلب يظهر غيَّها ورداها

وجماجم القتلى لأرجل خيلنا في الكر تقرع فوقها وتطاها

والرُّمح في كفي كأن سنانه نجم المجرة لاح في أعلاها

وقريبا منه يقول نقيب الطالبيين الأول الشريف المرتضى، وهو يحض فتيان بني هاشم على الانتقام من خصومهم، وكل الأمة خصومهم:

نَبهتُهُمْ مِثْلَ عَوَالي الرّمَاحْ إلى الوَغَى قَبلَ نُمُومِ الصّبَاحْ

فوارس نالوا المنى بالقنا وصافحوا أعراضهم بالصفاح

لغارة سامع أنبائها يغص منها بالزلال القراح

لَيسَ عَلى مُضْرِمِهَا سُبّة ٌ ولا على المجلب منها جناح

دُونَكُمُ، فابتَدِرُوا غُنمَهَا دُمًى مُباحاتٍ، وَمَالٌ مُبَاحْ

فإننا في أرض اعدائنا لا نَطَأُ العَذْرَاءَ إلاّ سَفَاحْ

ولنلاحظ هنا مقدار التأزم النفسي والحقد الذي يغلي في نفس المؤسس الأول، وهو يشير إلى حلاوة الطعن، وإلى جماجم القتلى حين تطؤها خيله، كما هو الشأن أيضا لدى نقيب الطالبيين حين يتفاخر أنهم لا يطؤون العذراء في أرض أعدائهم إلا سفاحا، أي بالاغتصاب..! ولم يكن لهؤلاء من عدو إلا من بني جلدتهم عبر التاريخ..! هذا على الصعيد النظري، أما على الصعيد العملي فكل تاريخهم عدوان وقتل وسفك، وكل إمام جعل من سلوك الإمام الذي سبقه حجة يقيس بها إجرامه.

كما نلاحظ أيضا قول الإمَام عبد الله بن حمزة: “ونحن طَلبةُ الحَقِ الذي غُلبنا عليه، وورثة العِلم الذي دعونا إليه، ونحن الموتورون، وطَلبة الدم، ولو لم يبق من عمر الدنيا إلا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليَوم حتى نملك الأرض بين أقطارها على بني العباس، وعلى غيرهم من الناس”.

6ــ الهادوية تم توريثها للأبناء والأحفاد خلفا عن سلف، منذ يحيى بن الحسين وإلى اليوم، كإقطاعية مذهبية مغلقة على غيرهم. لأنها أقصر الطرق للحكم والسيطرة، وبين يدينا هذه المراسلات الشعرية بين يحيى حسين الرسي من اليمن، إلى أبناء عمومته في بلاد فارس، يوضح لهم حقيقة وضعه، وقد طلبوا منه ما خلف وزنه وغلا ثمنة:

كذلك أنتم يا آل أحمد فانهضـــــوا بجيش كسيل حدرته الجراشع

فما العز إلا الصبر في حومة الوغى إذا برقت فيه السيوف اللوامع

هل الملك إلا العز والأمر والغنى وأفضلكم من هذبته الطبـــائع

بنيت لكم بيتا من المجد سمكه دوين الثريا فخره متتابع

ألم تعلموا أني أجود بمهجتي ومالي جميعا دونكم وأدافع

فما أحد يسعى لينعش عزكم سواي وهذا عند ذي اللب واقع

متهكما من اليمن واليمنيين، وساخرا منهم:

بني العم إني في بلاد دنيَّةٍ قليل وداها شرها متتابع

وليس به مال يقوم ببعضها وساكنها عريان غرثان جائع

فإن لم تكافوني بفعلي فتحسنوا فلا يأتني منكم ـ هُديتم ـ قطائع

أخيرا.. لو تأملنا عن بعد في طبيعة هذه النظرية/ المذهب كما يقول عنه أتباعه لوجدنا مداره ومحور ارتكازه قائمة حول “الإمامة” فقط، فهي “الكتلة الصلبة” التي تدور حولها بقية الأفكار والمسائل، وهي النواة التي تطوف حولها بقية الجُزيئات والهَالات، ولو نزعنا فكرة “الإمامة” من هذه النظرية وتأملنا ما ذا تبقى غيرها؟ لن نجد غير بضعة مسائل فقهية متفرقة هنا وهناك، أغلبها مبثوثة في كتب الفقه الإسلامي، لا تمثل أية إضافة نوعية، تتفق مع بعضها أحيانا وتختلف معها حينا آخر، ولا يترتب على هذا الاختلاف شيء ما في الغالب، إلا إذا كان الاختلاف مع المسألة الأم “الإمامة” فإنه يترتب الكفر البواح؛ لأن مسألة الحكم في هذه النظرية من العقائد والأصول لا من الفقهيات والفروع، وهو ما لم تقل به كل مذاهب أهل السنة قبل ذلك أو بعد.

الخلاصة.. نظرية البطنين الدينية/ السِّيَاسِيَّة هِي ذاتها نَظَرِيَّةُ النازية/ العرقية، خاصَّة أن كلتيهما تعتمدان على العِرق أو العُنصر؛ إذ قرر هتلر أن العرق الآري ـ وفق النَّظَرِيَّة الجديدة ـ هو العِرقُ الأفضل والأرقى وسَيد العالم بلا منافس، والذي يجب أن يحكم أوروبا كلها. فقضى إثر ذلك على الحريات الفردية وصَادر الحقوق المدنية، وأصبح الجميع أحزابًا وشخصياتٍ ومنظماتٍ يدورون في فلك النازية الهتلرية الجديدة، وتم نقل سُلطات المجلس التشريعي إلى مجلس الوزراء الذي يرؤسه “الفوهرر” فكان وحده هو الحزب وهو الدولة!

*من صفحة الكاتب على إكس

تعليقات