الحيرة الأميركية
يذهب الزائر إلى واشنطن هذه الأيام باحثاً عن إجابات لأسئلة كثيرة وحاملاً لاستفسارات أكثر، لكنه يغادرها مثقلاً بأسئلة وحيرة أكبر، وتبدو عاصمة العالم الغربي الأهم والأخطر مرتبكة لأنها لا تريد اتخاذ الخطوة الأولى الواجب السير فيها نحو استقرار المنطقة، وواضح أنها لن تفعل، كما أنها تنزلق في ترتيبات الانتخابات المقبلة التي ربما عاد لها رئيس سابق يريد الانتقام من خصومه وأصدقائه القدامى الذين صار يصنفهم “خونة” لأنهم قبلوا التعاون مع خلفه.
الأيام التي قضيتها بين واشنطن ونيويورك منحتني فرصة اقتراب بعد انقطاع زاد عن 10 سنوات للقاء عدد من الأصدقاء اليمنيين الذين استقروا هناك مع أسرهم إما للدراسة أو العمل أو في انتظار الشخص الخيالي “غودو” لعله يأتي إليهم بـأخبار سعيدة تمنحهم أملاً أو حتى سراباً ليعودوا للبلاد، وكان أغلبهم يسأل ويستفسر ويحاول مغالبة الشك بالتفاؤل وإن كان بلا معطيات مقنعة.
وكانت الزيارة فرصة للقاء المعنيين بالملف اليمني داخل المؤسسات الحكومية وخارجها للتعرف عن قرب على المزاج الرسمي وما تخطط له الإدارة في أشهرها الأخيرة قبل احتدام المعركة الانتخابية التي سيكون الملف اليمني وخصوصاً أمن البحر الأحمر من قضاياها، ولكن ليس في إطار وقف الحرب في اليمن، وإنما للبحث في كيفية ردع جماعة “الحوثي” كي لا تتحول إلى قوة مستدامة قادرة على تهديد الملاحة الدولية، وهو الدور الذي تمارسه منذ بداية الحرب في غزة تحت شعار المطالبة من خلاله بوقف عملية الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل.
كان الإجماع في كل اللقاءات مع المسـؤولين عن الملف اليمني أن هناك حاجة إلى المضي في مسارات ثلاثة متزامنة أهمها التهدئة في البحر الأحمر، والثاني الملح يمنياً المتعلق بحسم الملف الإنساني ضمن الخطة التي تبنتها الرياض ومسقط، والمسار الثالث هو القلق من أسلوب إدارة كيان “الشرعية” داخل المناطق التي تسمى بالمحررة.
ترى واشنطن أن استمرار تهديد الملاحة في البحر الأحمر أمر لا يمكن السماح به ولا المساومة عليه، لما يمثله من أهمية قصوى للتجارة العالمية ولن يسمح لأية دولة أو جماعة السيطرة عليها أو تهديدها.
وتستفسر واشنطن ما إذا كان الأمر متصلا بالحرب في غزة، وهناك قناعة لدى كثيرين عن الارتباط الوثيق بينهما، ويسود الاعتقاد بأن وقف الحرب وإدخال المساعدات سيجعل جماعة “الحوثي” تبدو كأنما حققت انتصاراً داخلياً في المنطقة، وهو أمر لا يهم واشنطن ولا يقلقها ولا تكترث له طالما كان سيحقق الهدف النهائي وهو أمن البحر الأحمر، وفي الوقت نفسه سيسقط مبررات الحوثيين في استمرار تعريض السفن للخطر.
واشنطن كررت أنها غير عازمة على تجاوز المهمة التي أعلنتها وهي تحديداً شل قدرة الحوثيين على تهديد الملاحة الدولية، وبطبيعة الحال فإن هذا لا يروق لخصوم الحوثيين الذين ينادون بضربة قاضية لهم كي يتمكنوا من العودة لصنعاء.
وفي هذا السياق جرى نقاش حول أداء تركيبة الحكم الحالية وأسباب غيابها عن البلاد، وإذا ما كان بإمكانها في ظل الخلافات التي تعصف بها أن تكون قادرة على الدخول في مفاوضات ما بعد استحقاقات الملف الإنساني الذي يرى كثيرون أنه الخطوة الأولى في إحلال السلام.
وهناك إجماع بأن البدء في تنفيذه حيوي لتعلقه بحياة المواطنين وسيسهم في انتشالهم من حال الفقر والعوز الذي فرضته الحرب عليهم، وهنا فإن على الجماعة مسـؤولية أخلاقية، كما أن على السلطة “الشرعية” مسؤولية وطنية، تتخلفان عن القيام بهما وتشتركان في عرقلة التوصل إلى اتفاق حوله.
هناك أيضاً اعتبارات أمنية تتعلق بالمدى الذي يمكن أن تذهب إليه الضربات الجوية ضد مواقع الحوثيين العسكرية وما يمكن أن تحققه من إضعاف لقدراتهم في تهديد الملاحة الدولية، لأنهم يعرفون مدى ضعف البنية السياسية والعسكرية والأمنية للسلطة المعترف بها دولياً، ولذلك فهم يخشون خلق فراغ أمني في المناطق التي يسيطر عليها مسلحو الجماعة ولن يكون بمقدور أحد ملئه، لأن النموذج الحالي في المناطق “المحررة” غير مقنع ويطرح تساؤلات حول قدرته على الإنجاز الإيجابي بهذه التركيبة السياسية التي لا يمكن تعديلها حالياً.
زيارة واشنطن والحديث المباشر إلى ومع المعنيين والمهتمين يترك انطباعاً بأن محور تفكيرهم هو السعي إلى عدم تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ثم العودة لمسار وصل العلاقات الذي توقف في المنطقة ولو إلى حين.
وتستنفد الإدارة الحالية كامل جهدها للتوصل إلى إنهاء حال العداء بين إسرائيل وبقية الدول العربية التي لم تنخرط في المسار، وذلك قبل يونيو (حزيران) الذي تزداد فيه اهتمامات البيت الأبيض بالقضايا الداخلية مع اقتراب موعد الانتخابات، وستشكل معها الحرب في غزة جزءاً مهماً سيحدد توجهات الناخبين وستكون حاضرة بقوة لدى الكتلة الانتخابية من الأميركان ذوي الأصول العربية خصوصاً والأقليات عموماً.
وتعبر التحولات السياسية داخل الكتل الانتخابية في الولايات المتحدة عن حجم تأثير الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب زيادة الوعي الذي تمكن على رغم كل الانحياز للرواية الإسرائيلية أن يوصل الرواية الفلسطينية إلى المجتمع الأميركي ويظهر حجم المأساة التي تصنعها الحرب في غزة وما ستخلفه من الأحقاد والكراهية لعقود مقبلة.
ما لا تستوعبه الإدارة في واشنطن هو أن علاقات السلام التي تتمناها تحقيقاً لرغبة إسرائيلية لا يمكنها جلب الاستقرار إلى المنطقة، ولن تسمح بحدوث سلام خارج رحم السلطة في هذا البلد أو ذاك، ويبقى حل قيام الدولة الفلسطينية خطوة وحيدة يمكنها تهدئة الغليان الشعبي، وحتى اللحظة لم تدرك الإدارات الأميركية المتتابعة على مدى عقود طويلة أن الاستمرار في الانحياز الكامل للمنظور الإسرائيلي في ماهية السلام وأثمانه لا يمكن القبول بها.
*نقلا عن موقع “إندبندنت عربية”.