منبر حر لكل اليمنيين

إيران وأمن البحر الأحمر

67

نجمت عن الحرب الأخيرة التي تدور رحاها على أرض فلسطين نتائج هامة بعد أن حصدت آلة القتل الإسرائيلية المئات من المدنيين كل يوم على امتداد الثلاثة أشهر الماضية في صورة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً.

لقد حصدت تلك الحرب الجائرة أرواح عشرات الآلاف من الأطفال والنساء وكبار السن، بل وعموم أبناء الشعب الفلسطيني الذي ناضل في بسالة ليس لها نظير، أفرزت حقائق تطرح مواقف جديدة وأوضاعاً لم يكن لها ذلك الاهتمام الذي لقيته أثناء تلك الحرب حتى الآن.

لعل أبرز تلك الحقائق في ظني -على المستوى الإقليمي- بروز الدور الإيراني والطموحات التي تدفعه للسيطرة على مفاصل الإقليم والتحكم في ممراته المائية من مضيق هرمز وصولاً إلى مضيق باب المندب مروراً بحشد كبير من التنظيمات العسكرية المؤيدة لسياسة طهران والدائرة في فلكها بدءاً من “حزب الله” اللبناني وصولاً إلى حركة “أنصار الله” الحوثية مروراً بتحالف مستمر مع الحكم في دمشق وتطلعات للسيطرة في أطراف العراق واستهداف للواقع الجغرافي الذي يحدد ملامح إقليمي غرب آسيا وشمال أفريقيا حتى تستعيد طهران جزءاً من أحلام الشاه منذ عشرات السنين عندما كان يفكر في دولته بأنها (شرطي الخليج).

يظل البحر الأحمر بشاطئيه الآسيوي والأفريقي مركز اهتمام وبؤرة للصراع بين إيران والمحيط الإقليمي، لذلك البحر الذي تطل عليه دول عربية مهمة مثل مصر حيث تتصل مياه خليج السويس مع البحر الأبيض المتوسط أو مثل السعودية التي تتمتع بشاطئ طويل تقع عليه العاصمة الثانية مدينة جدة بقرب الأماكن المقدسة لدى أكثر من مليار ونصف مسلم في العالم تهفو قلوبهم نحو الكعبة ونحو قبر رسول الإسلام أهمية روحانية وقداسة طالما داعبت أحلام الملايين من أبناء الشعوب الإسلامية.

إيران تدرك جيداً حساسية موقع البحر الأحمر في قلب العالم العربي وكونه على مقربة من مكة والمدينة منزل الوحي ومهبط الرسالة، فضلاً عن التماس المباشر مع الحدود المصرية والسودانية، لكن الزاوية الحرجة التي تدرك طهران أهميتها الجيوسياسية إنما تتمثل في الجمهورية اليمنية وما يجري فيها من صراعات وما يدور حولها من اضطرابات تستهدف بالدرجة الأولى محاولة السيطرة الدائمة على مضيق باب المندب البوابة الأولي لقناة السويس التي تربط بين الشرق والغرب، فضلاً عن الأهمية الاستراتيجية لجنوب الجزيرة العربية وطرق التجارة العابرة منها في اتجاه الهند وجنوب آسيا.

هذه كلها معطيات لا تغيب عن العقل الإيراني ولا تغيب عن طموحاته التي عبر بها تاريخياً عن أحلامه في إمبراطورية فارسية كبرى تمتد أذرعها من حدود روسيا الاتحادية شمالاً حتى بحر العرب والمحيط الهندي جنوباً محتوية الخليج العربي الذي تطلق عليه إيران اسم الخليج الفارسي في إصرار شديد يعود إلى ما قبل ظهور الدول العربية الخليجية المحيطة به.

وإذا كانت الأحداث الأخيرة في فلسطين وغزة تحديداً قد أضحت أحداثاً كاشفة لأدوار الدول المختلفة في المنطقة فإننا نظن أن الدور المتقطع لـ”حزب الله” والمسيرات المباغتة التي أطلقها الحوثيون تضامناً مع الشعب الفلسطيني إنما كانت كلها إشارات إلى الوجود الإيراني في المنطقة والقدرة على تحريك الموقف تضامناً مع الشعب الفلسطيني، واضعين في الاعتبار تواصل الصراع بين طهران وواشنطن وحلفائهما حتى إن إسرائيل والولايات المتحدة قامتا بسلسلة اغتيالات متكررة ضد قيادات الحرس الثوري الإيراني حتى زعمت طهران أن “طوفان الأقصى” إنما كانت ثأراً لاغتيال قاسم السليماني منذ عدة أعوام قليلة، لكن طهران تراجعت في ذلك الزعم الذي لم تؤكده مصادر “حماس”.

نؤكد هنا أن تضامن إيران مع الشعب الفلسطيني وهو أمر لا بأس به من منطلق شعور تضامني روحي مع ما تعرضت له المنطقة من هزات عنيفة خلال الأشهر الأخيرة، لكن الأمر كله لا يبرأ في الوقت ذاته من أن يكون جزءاً من كل يشكل الرؤية الإيرانية التي تخفي وراءها الأطماع الفارسية في المنطقة كلها، ولقد حرصت طهران على أن يكون دورها محكوماً بإطار لا تتجاوزه في هذه الظروف حتى لا تكون النتائج عاصفة في ظل حسابات دقيقة لظرف ملتهب في المنطقة بخاصة أن حرب غزة قد أفرزت مواقف جديدة لم تكن واردة في المستقبل القريب.

من تلك المواقف على سبيل المثال التقارب الواضح بين طهران وموسكو والحذر الأميركي من توسيع دائرة الحرب في الشرق الأوسط لتصبح حرباً إقليمية شاملة، وهو ما لا تريده واشنطن خوفاً على إسرائيل ورغبة في عدم التورط الأميركي لو نشبت تلك الحرب، كما أن هناك تصرفات مفاجئة منها على سبيل المثال الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى اليونان قفزاً على التاريخ الطويل من العداء والحذر الصامت بين أنقرة وأثينا على امتداد السنين، ويهمني أن ألفت النظر هنا إلى الملاحظات الآتية:

أولاً: إن هناك بعض الشواهد التي توحي بأن حركة “حماس” ليست امتداداً للسياسة الإيرانية فقد تكون مدعومة مادياً من قطر ولكن “حزب الله” وربما أيضاً حركة الحوثيين هي التجمعات المسلحة التي تدور في فلك إيران تحديداً، ولا يعود السبب في ذلك إلى الخلاف المذهبي بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ببعدها السني، إذ إنها مختلفة عن التوجهات الإيرانية مذهبياً وسياسياً.

ومع ذلك فإن التعاطف المشترك بينهما ينبع من مواجهة عدو واحد وهو إسرائيل، فالأمر يختلف بالطبع بالنسبة لـ”حزب الله” والجماعة الحوثية إذ إن كليهما يرتبط بإيران سياسياً ومذهبياً وقد لاحظنا أن أول تصريح إيراني على أحداث السابع من أكتوبر عام 2023 قد جاء مباركاً لما جرى، لكن مؤكداً في الوقت ذاته أن إيران ليست شريكاً في التخطيط أو التنفيذ ولا علم مسبقاً لها به، وتلك علامة مهمة توضح حدود إيران في الصراع العربي- الإسرائيلي والتوقف عند درجة معينة لا تتجاوزها حفاظاً على مصالحها الإقليمية وعلاقاتها الدولية والمشروع النووي التي تحاول إقامته على رغم الاعتراضات الغربية والأميركية والإسرائيلية تحديداً.

ثانياً: إن حدود الحركة الإيرانية في القضية الفلسطينية ليست مثل الدول العربية بل إن لديها نقاط تماس تجعلها أكثر اهتماماً بزوايا معينة في الصراع تصب في المصالح الإيرانية وليس في مواجهة الموقف برمته واقتحام زواياه المختلفة، فهي تبحث عن محاربين بالوكالة ولكنها لم ولن تجازف بالتدخل المباشر في ذلك الصراع وحروبه المتجددة والتاريخ شاهد على ذلك، إذ إن الموقف الإيراني يعكس سياسة الدولة الرسمية وليس اندفاعاً شعبياً تلقائياً مثلما هو الأمر في معظم الدول العربية.

ثالثاً: إن الأجندة الوطنية الإيرانية ذات سلم للأولويات يتصل بالواقع الإيراني في الدرجة الأولى وحدود مصالحه ونقاط التقاطع مع غيره من شركاء الشرق الأوسط وأصحاب المصالح المتداخلة والتي كان لها تأثير قوي في الأوضاع القائمة، ولعل الزلزال السياسي الكبير بميلاد الجمهورية الإسلامية عام 1979 هو ناقوس الخطر الذي دق في المنطقة وخلق لإيران وضعاً لم يكن قائماً ودوراً لم يكن مؤثراً، وها هم اليوم يناطحون الغرب ويتحدون مصالحه في المنطقة انطلاقاً من وجهة نظر إيرانية مهما جرى الصدام في التسميات الأخرى وراء شعارات الدولة الإسلامية أو محاربة الشيطان الأسود والذي يقصدون به الولايات المتحدة الأميركية.

تلك رؤية نتداولها خلال هذا الظرف العصيب الذي تمر به المنطقة والذي نشعر فيه أن ما هو قادم مختلف عما هو قائم، فقد تكشفت النوايا وظهرت الاتجاهات المختلفة والقوى السياسية والتجمعات العسكرية في المنطقة وأصبحت المقاومة الفلسطينية رقماً صعباً في المعادلة القائمة بينما تحاول إيران استثمار هذا الوضع في مصلحة السياسات المتداخلة على ساحة المنطقة ولن يكون الفلسطينيون مرة أخرى كالأيتام على مائدة اللئام.

* نقلا عن موقع (إندبندنت عربية)

تعليقات