منبر حر لكل اليمنيين

عن فضيلة الانفتاح والمرونة في الفكر والحياة

31

يستحق الإشفاق من يحبس نفسه بين دفتي كتاب أو بين جدران نظرية أو مذهب أو عقيدة صلبة خانقة لا يتسرب إليها الهواء.

لا فرق أكان هذا الشخص شاعراً أو كاتباً أو رجل دولة وسياسة.

في الفكر والحياة إجمالاً، أحبُّ الأسلوب الحر المشرع على كل الآفاق بلا تحفظ، أحب التوليف الذكي والتركيب والمزج والتوفيق.

أحب مغامرة العقل الإنساني المدفوعة بروح الاستكشاف الذي لا يحده حد.

سألوا عبد الله البردوني إلى أي الفرق الكلامية ينتمي؟

فقال: “لم تعد هناك فرق كلامية.. هناك فرق سياسية، وأنا أنتمي إلى كل الفرق السياسية أو إلى خير ما فيها جميعاً”، (من حوار مع صحيفة الثقافية في 2 سبتمبر 1999م).

وسألوا الرئيس علي عبدالله صالح بعد عام من إعلان الوحدة اليمنية: هل سيكون اليمن اشتراكياً على طريقة الشطر الجنوبي أم رأسمالياً على طريقة الشطر الشمالي؟

فقال: “سنأخذ الشيء الإيجابي من كل مكان ومن كل نظام وتجربة سواء كانت اشتراكية أو رأسمالية مع العلم أن الاشتراكية أثبتت فشلها في المنظومة الاشتراكية والرأسمالية ليست كلها إيجابيات وقد أوجدت مشاكل جمة وصعبة، وفي ظل الوحدة سنستفيد من كل ما هو إيجابي ونأخذ بالنهج الذي يتلاءم مع طبيعة وواقع بلادنا”، (علي عبدالله صالح مقابلة مع الأهالي المصرية 20 فبراير 1991م).

وعلى الرغم من أن الأول شاعر وكاتب ومثقف، والثاني سياسي ورجل دولة، إلا أننا نلمس في جوابيهما ما يشير إلى صفة ثمينة مشتركة: الانفتاح والمرونة، بمقتضى العقل أو بمقتضى الحاجة ومقتضى الحال.

وفي العلاقة مع تجارب وثقافات الأمم والشعوب الأخرى، أميل إلى التفاعل الإيجابي الخلاق، مفضِّلاً “التأويل الحر والاختيار” على “الاقتباس والتأثر”، أعني التأويل الحر لعناصر ومكونات كل ثقافة والاختيار منها بما يتفق مع مقاصد المجتمع وأغراضه، بدلاً عن الاقتباس الحرفي والتأثر غير المتبصر.

كان طه حسين -قبل قرن من الآن- قد أنكر على عباس محمود العقاد المفاضلة التي عقدها بين اللاتين والسكسون كعرقين وثقافتين.

وفيما كان العقاد يقول بأفضلية ثقافة السكسون (الإنجليز)، فقد رأى طه حسين، رغم ميله اللاتيني الفرانكفوني، أنه ليس من الصواب المفاضلة على هذا النحو بين الثقافات، وحجَّته أن “الثقافات كلها قيمة خصبة وأن المنفعة الصحيحة منها إنما تتحقق عندما نأخذ منها جميعاً بحظوظ مختلفة فلا نكون أسرى الإنجليزية ولا أسرى الفرنسيين ولا أسرى الألمان وإنما نكون مصريين قبل كل شيء يأخذون بحظهم من الثقافات الحية حسب أمزجتهم ومنافعهم وحاجاتهم وطاقاتهم”.

وقال طه حسين إنه دعا وسيدعو إلى أن تكون مدارس وجامعات مصر ملتقى لأعظم حظ ممكن من الثقافات، (طه حسين، مجلة الرسالة، العدد 3، 15 فبراير 1933م).

لكن في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، الصادر عام 1938م، يحاول طه حسين بنبرة خطابية إقناع القارىء بأن مصر -عقلاً وطبعاً وثقافة وفهماً وإدراكاً- هي “غربية” أكثر منها “شرقية” بالمفهوم الثقافي والحضاري، بل إنه ينفي عن مصر “شرقيتها” حتى بالمفهوم الجهوي الجغرافي إذا كان مركز التحديد أوروبا.

في هذا الكتاب بدا طه حسين وكأنه لا يريد للعقل المصري أن يتغذى من مائدة غير مائدة الحضارة الأوروبية، وهو بهذا يخون موقفه السابق الرافض للمفاضلة بين الثقافات والحضارات والداعي إلى الأخذ منها كلها حسب المزاج والمنفعة والحاجة والطاقة.

وقد رأى الناقد والمفكر السوري جورج طرابيشي في الكتاب المذكور لـ طه حسين خلطاً معيباً بين التحديث والتغريب والأوربة التي تعني التماهي الكامل مع أوروبا.

وإذا كان “التحديث”، وفقاً لـ طرابيشي، مفهوما أغنى وأخصب وأوسع وأعمق من مفهوم التغريب، فإن “التغريب” أحادي المرجعية وإلزامي النموذج، (طرابيشي، من النهضة إلى الردة، ص42).

*نقلا عن نيوزيمن.

تعليقات