مزمار الأفعوان
أنا الآن في أول نقطة مني، وبيني وبين محيط الدائرة، محيط الدائرة الواسع.. إلى نهايته، فلأقلْ: إن ما يعلو رأسي من الآن وصاعداً هو الأعلى، وإن ما أقف على حافته هو القاع، ولأتسعْ إلى الأبعد بخطوة، وأقول: للأعالي ما في شرفة فضائها من أعالٍ، وللقاع ما على خيمة القاع من حبالٍ وأوتاد، ولي كل هذا الفضاء، المجوف بين أصابعهما.. أُضيقه إذا شئتُ، فأشير بأصبعي إلى مابعد أنفي بما يساوي أنملةً، وأقول: لقد ضاقت الهوّهُ مابيني وبيني، وأوسّعه إلى نهايته، إذا شئتُ، فأشير بأصبعي إلى نهاية مالا أرى، وأقول: لقد اتسعتُ إلى نهاية ضوضاء حدودي، وجعلتُ ما على الماء يابسة، وجعلتُ ما على اليابسة سباخاً محشوةً بتلافيف الرمل والوحل.
وليكن! إنني متعبٌ، وأنا لاريث ولا عجل، أدخل إلى نفسي كأنني لا أرى شيئاً، وأخرج منها فلا أرى إلا الهباء، وإلا الهباء.
شاهقٌ هو فضاء الحلم، ورطبٌ وقارسٌ حجرُ القاع، كيف لي أن أواخي بين الغيمة والحجر في غلاف هدب واحد؟ وكيف لي أن أتخاطب مع هذه الترهات، (وألتقط منها ـ مع أول نظرة ـ بعرةً) وأضيء عليها بزنادِ قشي؟ ولمن أكِل فضاء الرخاوة والهشاشة المتآكلة بين حد قوس الغيم وصومعة الحجر؟
إنه التعبُ يدعوني إليه مرّةً ثانية، على صهوة فرس، ويدخلني إليه على سرج رمح، وأنا مائلٌ للسواد على جهة، ومطبقٌ للسواد، على جهة، فأصبحُ كأنني ليلٌ، وأصبحُ كأنني ليلٌ وبينهما فرس التعب اللاهثة تقوضني بأرماحها، وتقرضني بأول حروف أسمائها.
خالعٌ على ما في جبّة الغيم للغيم، مانحٌ ما بقاع الرمل من حشو للرمل، وأهبٌ نفسيِ اسمها الأول الذي تنهض منه: أنا الرمل يأتي في تمام ميقاته، والحلم يدخل مفصحاً عن وجهته قبل، وربما بعد، ميقاته.
ذلك هو أنا: أعزلٌ أجيء كغراب وموحشٌ أجيء كالتراب، ولي في خيال الظنون أضرحةٌ ولي عائلة وكتّانٌ وحاشية ووصـــائف ـ من القرميد ـ ينهضن ثم يدخلن إلى محاريب شهوتي، مكللة بعقود الطلح وأصفاد العنفوان.
سيقول لي الروعُ: إني استبقتهُ إلى غاره، قبل أن يأذن لي بالدخول إليه، وستدخل محظيات الطلح، حاسراتٍ عن أقنعتهن، ثم يأخذن بالتخطر في ردهات صرح الغار، حتى إذا التمعتْ جبهاتهن على صفحات الشوك، قلتُ: تلك سيقانهن تدخل إليَ ممرداتٍ، كأنهن أعقاب الحجارة.
وليكن إنني متعبٌ، وأنا لا ريث ولاعجل، أدنو إليهن كأنني أنأى، وآتي إليهن كأنني أمشي إلى حفلة ختاني، ساعة عرسي، حتى إذا فرغتْ كل الخطى في الساق، والتفّت المسافات النائيات بيني وبينهن، والتقت الأحداق على الأحداق، وجحظت عيناي، وسال ماؤها على وجهي، قلتُ تلك ساعتي قد اقتربت من زفافها، فانشق الهدب وانكسر الوترُ، هذا أنا أدخلُ إلى الحجر، أعمى، وأخلع كل ماعلى جسدي من محاريث، وأدوّي كصخرة على زبد.
اليومُ أولد من موج هذا العماء، وأصعدُ في معراجه، ثانية، أتحسس بكفي مايولد فيه من فراغات وأشكال نسل، وآخذ بتقليب كفي كأنني أدعو، وآخذ بتقليب كفي كأنني أحفرُ قبراً، وأحمد الله الذي ألقى الروع في أسماع النملة، وأدخلها إلى مساكنها بما كتبه الله لها في فمها من قش، وتسوح في جوف الأرض آمنةً.
اليوم أكملتُ زينتي وتطهّرتُ من أدران الرماد، وعدتُ إليَّ بلا شفة ولاناي، أجمعُ أحجاري، وأولم بها وليمة عرسي، فليدخل الرماد مسجى، إذا شاء في غصن نايي، وليدخل السواد منبسطاً، إذا شاء إلى جوف كلماتي ولأتسع أو أضقْ أنا بينهما، فأنا ما أزال بين النبل والقوس، في لحظة التقويس، قبل أن أهوي إلى نهايتي.. في قعر الحجر.
* من ديوان زفاف الحجارة للبحر