التصوف في قصائد الدكتور/ عبدالعزيز المقالح
بين الأبجدية والروح مساحةٌ ظاهرها اللغة، وباطنها سرٌّ طائرٌ في ملكوت الغيب، وبينهما شاعرٌ يطارد روحه، غير أن اللغة حجابٌ يواري الأشياء عن حقيقتها؛ لذا يظل الشاعر يرسم في مخيلته حقيقة الأشياء بأنفاس مجازاته، ويحاول من خلال عوالم اللغة أن يأتي بمقاربات للعوامل الخارجية المحيطة به، لكنه حين يتحدث عن الغيبيات يصف الغيب بالمجاز؛ فتتسع وتضيق المساحات بين اللغة والحقيقة في آنٍ واحد، وهو الأمر الذي جسده الشاعر الدكتور/ عبدالعزيز المقالح في قصائده.
الحديث عن الروح سِمة بارزة في قصائد الدكتور/ المقالح، كما أن التصوف من المواضيع البارزة في تجربته الكبيرة، فهو يدخل عوالم التصوف بروح نقية عاشت في مقامات الشريعة والحقيقة، وتشربت من مشارب القوم، الأمر الذي يجعلها قادرة على خلق عوالمه الخاصة؛ لذا تجده حين يكتب يتكئ على أرضية معرفية تجعله يبدو مختلفاً عمن قبله، فالطرائق بعدد الخلائق، ولأنه مدرك ذلك وقف على بساط الماضي، وأقام عليه عالمه الخاص:
مثل برقٍ أضاء.. ومَر
مثل صوت المطر
لمع السرُّ في راحتيْ
وهوى يستريح بأطرافها
ابتل شخصي بماء الحقيقة
وانشقت الروح عن نفسها
عن فتى ذاهلٍ في السباقْ
هذا هو موقف الروح عنده، يمر سريعاً، لكن قلوب العارفين تقرأ في زمنه الخاطف مساحاتٍ كبيرةً من العرفان، ولأنه كذلك؛ فله صوت المطر، وعمل الماء في الأرض ، إلا أن هذه اللحظة الخاطفة كانت مقاماً أدركه الشاعر، وصرح به؛ حين قال: (لمع السر في راحتيْ) ثم حين أمسك بخيط ذلك السر انشقت الروح عن نفسها؛ لأنها من أمر ربي، لكن لقلوب العارفين أحوالهم، فالأحوال رؤوس أموال، ولا ينبغي لأحد أن يأخذ أكثر من حاجته، وقد أدرك الشاعر أنه ليس وحيدا يقف في مقام الكشف، لكنه واحد ممن دخلوا ذلك السباق.
هكذا يصرح، ويكشف للغة خفايا تجلياته، لكنه في ذات الوقت يقف أمام أقرانه متكئاً على تجاربهم، يؤكد ذلك أنه اختار عنوانا لقصيدته (موقف الروح)، وهنا ينصرف الذهن مباشرة إلى الإمام (محمد النفري) في مواقفه ومخاطباته: ( قل للعارفين، وقل لقلوب العارفين: قفوا لي لا للمعرفة؛ أتعرف إليكم بما أشاء من المعرفة).
وهنا تبرز قدرة الشاعر على محاكات الماضي نَصَّاً، ومخالفته فكرةً؛ فقد وقف الشاعر موقفاً يتناسب مع أرضيته المعرفية بلغة عصره، وبالمقابل فهو يتحدث عن الوقفة، وهي آخر مراتب الترقي عند الصوفية بلغة حديثة تجنح للأدب أكثر من جنوحها لدفقة العرفان المتجرد إلا من المثول في الحضرة.
يقول الإمام (محمد النفري): (يتعلق العارف بالمعرفة، ويدعي أنه تعلق بي، ولو تعلق بي هرب من المعرفة كما يهرب من النكرة).
وفي ذات المقام يقول الدكتور/ المقالح:
أكاد أراه
المسجى هنا رجلٌ عاد من رحلة الوهم منطفئاً
لا العبارة تغري كآبته
لا شظايا العيون الجميلة
شاخ الفتى
واستعاد نضارة أحزانه
يضحك اللهب المستعر في جوفه
وتباغته همهمات السؤال
إن للروح أبجديتها عند الدكتور/ المقالح، كما أنه يرى روحه، ويعي تفاصيلها؛ فيبعثرها في القصائد، فهو في مقامات بوحه شاعرٌ، وهو في تجلياته صوفيٌّ يكتب بمداد الذهول:
كنت أبصرها
كنت أبصر نفسي مكتظةً بالخطايا
محاصرةً بذباب الألم
حاولت إغراءها بالخروج من الجسم
أمعنت في صدها
فاستفزت بقايا الأفاعي بصدري
واستنفرت كبرياء الغواية
إن الشاعر الحقيقي مقام تتجمع فيه الأرواح المتشابهة؛ فيشكل منها حاله المتفردة حيث تعمل جاذبية روحه على التقاط الصور المتشابهة، واختصارها في مشهد واحد، وهذا ما يذهب إليه الدكتور/ المقالح، فهو يرى أن العالم كان وما زال روحاً واحداً:
كان الناس روحاً واحداً
والأرض منزلاً يسكنه الحب
ولا يضيق في رحابه البشر
إن للتصوف في قصائد الدكتور/ المقالح مسارات ثلاثة لا تتقاطع فيم بينها: علاقة بذاته، وعلاقة بالحق، وعلاقة بالخلق، ولكنه حين يجلو روحه؛ لتكون غائبة في مقام الحضور لا يغيب عن هموم الناس ومعاناتهم:
أمشي على قلقٍ بأصابع روحي
وأدنو على حذرٍ من جراح بلادي
لست الطبيب ولا صاحب الأمر
لكنني أتعذب حين أرى طفلةً ترتمي عند باب المدينة باحثةً عن بقايا طعام
أو امرأة تتسول خبزاً لأطفالها
فهو مسكون بالناس، منشغلٌ بهم، ولكن هذا الانشغال لا يتعارض مع غيابه في عوالم الحقيقة، فهو كما يقال: عقلٌ مع الخلق، وقلب مع الحق:
مستترٌ أنت الآن بثوب الدولار
معتصمٌ بالبنك
تقايض كنز الروح
-وكنز الروح جواهر لا تفنى-
بغبار اللذة، قل لي:
هل ستظل تقايض بالرغبات الرغبات
وتدخل دهليز الخوف وحيداً؟! ما أشقاك
وكما أن الكتابة الصوفية عند المقالح استنطاق للغة الروح، ومحاكاة للغة القوم، هي أيضاً محاكاة لكل ما هو مقدس:
يا سيدي
ورق العمر ما زال أبيضَ من غير سوءٍ
سوى ثرثرات المرايا
وأبخرة تتصاعد من كبد الشك
هل تستطيع اللغات التي ستموت معي
والقصائد أن تعبر الدهشة الصامتة؟!
إنه يقف في وادي الشعر المقدس؛ لهذا يرى أوراق قصائده تخرج بيضاء من غير سوء، ورغم هذه المحاكاة للنصِّ القرآني إلا أن مقام العرفان يجعله -وهو مجذوب في حضرة الدهشة- يصرح: إن هذا التناص مع لغة القرآن لا يرقى لأن يكون أكثر من ثرثرة، وأن تلك القصائد التي يطرزها لن تكون أكثر من دهشة صامتة ستموت معه.
لعل أجمل ما يميز كتابات الدكتور/ المقالح تلك الروح المتواضعة التي تحلق في سماء المعنى، وهي مؤمنة أن ما تقدمه أقل من أن يُتَحَدَّثَ عنه، فهو في مقام التَّخْلِيَةِ زاهدٌ منكسر، وهو في مقام التَّحْلِيَةِ عارفٌ خائفٌ؛ فقد ترك نفسه وجاء، دون أن يرى لنفسه حظاً:
إلهي
تسللت ذات مساء شديد الظلام
(إلى منطق الطير)( )
كان الفريد هناك يحدث أنصاره وتلاميذه
بعد أن عاد من مدن العشق
ممتلئاً بالمحبة للناس والطير
والكائنات القريبة
والكائنات البعيدة
قال لي: أيها الجاهلُ الجاحدُ الحقَّ
إن التعصب أفعى
وإنك -مهما ارتقى بك جَدُّكَ-
لست سوى حفنة من تراب.
*لـ”مجلة اليمنية”.