منبر حر لكل اليمنيين

“صبي من جنوب أفريقيا”

32

“أيام الصبا” هي مذكرات للروائي الجنوب الأفريقي ج.م. كويتزي الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام (2003)، ترجمها للعربية خالد الجبيلي، وصدرت في دمشق عن دار ورد عام 2005.
وكما توقعت، أتت المذكرات كقطعة حلوى لذيذة تذوب في العقل، ويبقى مفعولها في الروح كرحلة قصيرة مليئة بالسعادة.
تقع المذكرات في حدود مئتي صفحة، مكثفة، مقطرة، ولكنها تغوص في أعماق إنسانية قلَّما يتمكن إنسان بوعيه العادي من الوصول إليها.
لم يقم كويتزي بالإحالة إلى أيّ تاريخ في مذكراته، ولم يكن ذلك ليهمه بأيّ حال، فهو ليس مؤرخًا، ولكن اهتمامه انصب على سبر ماضي طفولته، وكشف مشاعره وانطباعاته عن الأماكن التي عاش فيها، وعن الناس الذين عايشهم.
كويتزي يؤرخ للولد الذي كانه، يكشف عن خلجات نفسه التي لم يدركها من حوله آنذاك، وأسراره الجوانية التي لم يبح بها لأحد، فهي اعترافات مثيرة، ولا تخلو من هجاء مقذع للذات.
تيسَّر لي قراءة بعض السير الذاتية العربية، ومعظمها يراوح بين الفخر بالذات، والاعتزاز بالعائلة، والتغني بالوطن، ونحو ذلك من رسم صورة مثالية للذات والأهل والوطن، وهو تجميل يضطر إليه الكاتب العربي لئلا يُوصم من معاصريه بتجاوز حدود اللياقة الاجتماعية.
يُقر كويتزي في صفحات عديدة من مذكراته برذائله، فهو لا يتحاشى وصف نفسه بالوضيع في المواقف التي تصرف فيها بطريقة وضيعة، وهو يحكم على نفسه كقاضٍ نزيه، ولا يبالي بما سيقوله عنه الناس، فالصدق عنده هو الفعل الأخلاقي الصحيح، ومن جهة أخرى فإن المجتمع الغربي يُقدِّر مصداقيته ويحترمها.
تحدث كويتزي عن علاقته بوالدته، وعن قسوته تجاهها:
“كان يتوق للتخلص من شدة اهتمامها به ورعايتها له. ولكي يحقق ذلك ربما أتى وقت تعين عليه أن يثبت نفسه، أن يرفضها بقسوة شديدة بحيث تشعر بالصدمة وتتراجع وتفك قيوده. ومع ذلك لم يكن يفكر إلا في تلك اللحظة، يتخيل نظرتها المندهشة، يشعر أنه جرح مشاعرها، ويغمره شعور عارم بالذنب. كان سيفعل أيّ شيء ليخفف من وطأة الصدمة: يواسيها، يعدها بأنه لن يبتعد عنها.. كان قلبه هرمًا، مظلمًا وقاسيًا. كان قلبًا من حجر. كان ذاك هو سره الوضيع”.
وعلى مدى صفحات كثيرة يُحلل كويتزي علاقته بأمه، والمشاعر السادية التي تنتاب الأطفال لتعذيب من يمنحهم الحب اللامحدود، وهي تجربة يمر بها كل طفل، خصوصًا الطفل المدلل من والديه، ولعل كويتزي هو أفضل من كشف هذه المشاعر السلبية التي تنتاب الطفل وأفعال الشقاوة التي يندم عليها لاحقًا عندما ينضج.
كذلك أبدى كويتزي رأيه في والده بصدق تام، دون اعتبار لفكرة برّ الوالدين، أو التغطية على تاريخ عائلته، فقد كان يتمنى وفاته ويتحرق شوقا لاختفائه من حياته، ففي سن الثالثة عشرة يتذكر أنه تسلل إلى مخدع والده ودارت برأسه هذه الخواطر:
“تقدم أكثر. اعتادت عيناه على الضوء. كان أبوه يرتدي بنطال بيجامته وقميصًا قطنيًا. ولم يكن حليق الذقن. وكان ثمة احمرار في حنجرته على شكل v حيث تتلاقى سفعة الشمس مع شحوب صدره. وكان إلى جانب السرير وعاء تطفو فيه أعقاب السجائر في البول البني. لم ير شيئًا أقبح من هذا طوال حياته. لم تكن هناك حبوب، ولم يكن الرجل يحتضر، بل كان نائما. فقد كان أجبن من أن يتناول حبوبا منومة، تمامًا كما أنه لم يكن يملك الشجاعة ليخرج من البيت ويبحث عن عمل”.
تنم كلمات كويتزي عن احتقار تام لوالده، وهو ينزع عنه كل احترام أو إجلال، ويضعه في المرتبة التي يستحقها، ولا يبدو أنه قد غفر له تقصيره وإخلاله بواجبه في إعالة الأسرة.. إنها صراحة متناهية، وحكم بالغ القسوة، ولكن لا مفر من الإقرار أنه عادل تمامًا، فلا شيء أسوأ من أن يتخلى رب الأسرة عن واجباته، ويدير ظهره تاركًا حمل المسؤولية على غيره، وفي هذه الحالة، كانت أم كويتزي هي التي تحملت إعالة الأسرة من خلال عملها كمدرسة، بالإضافة إلى إنقاذ زوجها من السجن بالتزامها سداد ما عليه من ديون.
تبدو جنوب أفريقيا في عقد الخمسينيات من القرن الماضي في نظر الصبي كويتزي واحدًا من أقبح بلدان العالم -باستثناء المزرعة التي كانت تملكها عائلته- حيث يشيع في مدنها وأحيائها العنف والعنصرية والفوارق الطبقية المخيفة، وصراع الأعراق الذي يخلق توترًا في كل زاوية وشارع، وفي المدرسة وحتى داخل البيت.
لقد نجح كويتزي من خلال عينيّ ولد أفريكاني في رسم صورة بالغة الجلاء عن الحياة والناس في ذلك الصقع البعيد من العالم. وهي مهارة تبدو في ظاهرها سهلة المنال، ولكنها ليست كذلك، لأنه في كل سطر تحدَّث عن نفسه، كان يعكس الصورة الأكبر عن مجتمعه، وعن العادات والتقاليد السائدة في تلك الحقبة.
نستنتج من المذكرات أن مجتمع جنوب أفريقيا كان مقسمًا إلى أربع طبقات:
1- الإنجليز.
2- الأفريكان.
3- الملونون.
4- السكان المحليون.
تنتمي عائلة كويتزي إلى فئة الأفريكان، وهم أعراق أوروبية مختلطة، ويفضح كويتزي دون حرج محاولات عائلته الحثيثة للتغطية على أصولهم الطبقية بادعاء أنهم من أصول إنجليزية، من مثل تسمية الأولاد بأسماء إنجليزية، والتحدث باللغة الإنجليزية، والتظاهر ببعض المظاهر الدخيلة عليهم، ونحو ذلك من الحيل للقفز إلى شريحة اجتماعية أعلى. من جانب آخر كانت أسرته تمارس العنصرية ضد الملونين والسود كواقع طبيعي، كأمر مُسلم به دون أدنى تأنيب للضمير، ويذكر مثلًا أن والدته إذا احتاجت مساعدة في إصلاح شيء في البيت أو حمل مشتريات من السوق، كانت تطلب من أيّ شخص أسود البشرة تصادفه أن يقوم بما تطلبه منه، وبالطبع لم تكن تدفع لهم شيئًا، وعندما سأل أمه لماذا لا تدفع لهم؟ أجابت أنهم متعودون على هذا! نلاحظ هنا هذا العرف الاجتماعي السائد في المجتمعات العنصرية، حيث يتعامل الأسياد مع ذوي البشرة السوداء كعبيد دون تمييز، وعليهم تلبية طلبات أسيادهم في أيّ مكان وفي أيّ وقت.
بالنسبة لوالدته التي نشأت وعاشت في مجتمع عنصري كان تصرفها طبيعيًا تمامًا، ولكن بالنسبة لطفل بريء فقد بدا له هذا التصرف مُجافيًا لفطرته السليمة، ومتناقضًا مع أبسط مبادئ العدالة.
المصير الحتمي لأيّ مجتمع عنصري هو الصراع المؤدي إلى زوال التراتبية الطبقية.. ولقد خاضت جنوب أفريقيا صراعًا مريرًا حتى تخلصت من النظام العنصري، وتحققت المساواة والعدالة الاجتماعية في عام 1994 عندما فاز نيسلون مانديلا في الانتخابات، وأصبح أول رجل أسود يحكم جنوب أفريقيا.
روى كويتزي مذكراته بضمير الغائب، ليصنع مسافة كافية بينه وبين ذاته القديمة، كي يتمكن من النظر إليها من بعيد كشخص غريب.. وربما ساعده هذا المنظور في تشريح ماضيه دون خشية من الألم أو الإشفاق على الذات.
حين نلتفت إلى ما يجري في فلسطين، ندرك أن النظام العنصري الذي يرزح تحت وطأته الإنسان الفلسطيني لن يصمد طويلًا، وكما كتب رئيس أسود نهاية النظام العنصري في جنوب أفريقيا، فإنه آت حتمًا رئيس فلسطيني أسمر يكتب نهاية النظام العنصري في أرض الأنبياء.
*من صفحة الكاتب في فيس بوك.

تعليقات