لماذا يكرهوننا؟ أم لماذا ينبغي أن يحبونا؟
السؤال الساذج الذي طرح بقوة واستمر لفترة بعد أحداث سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة كان: لماذا يكرهوننا؟
واختار الكثير من كتاب الأعمدة والمعلقين، والساسة على شاطئي الأطلسي الإجابة الأسهل: العرب والمسلمون يكرهون الولايات المتحدة والغرب، لأسباب تعود إليهم، وتتعلق بثقافتهم ودينهم الذي يحض على الكراهية، فهم متخلفون، منغلقون، متعصبون دينياً، ضد الحقوق والحريات، ضد المرأة، ضد الأقليات، ضد الديمقراطية والحياة الليبرالية، ضد القيم الإنسانية التي بنيت عليها الحضارة الغربية. ولأن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ولأنها «واحة الحرية» في محيط أحادي، منغلق، لا يؤمن بالتعددية، فإن العداء العربي الإسلامي لإسرائيل هو امتداد لكراهية تلك «الحيوانات البشرية» للحضارة الإنسانية.
يوم 20 أيلول/سبتمبر 2001 أجاب الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش على السؤال المطروح، أعطى إجابات قطعية؟، قال: «إنهم يكرهون حريتنا، حريتنا الدينية، حرية التعبير، حريتنا في التصويت والتجمع والاختلاف». هكذا بكل بساطة برأ نفسه وسياسة بلاده من كل الجرائم التي ارتكبتها، والتي استدعت كراهية شرائح واسعة في مجتمعات متعددة، بعضها على حدود الولايات المتحدة.
ومع ذلك فقد لجأ بوش الابن إلى تلك الإجابة، لأنها سهلة، مريحة، ترسل العقل في إجازة مفتوحة، وتحشد معطوبي الضمير خلف القائد المحارب الذي سيدمر فيما بعد أفغانستان والعراق، ثمناً لتدمير برجين في نيويورك، وكان ما كان.
إحدى أهم مشاكل الشعب الأمريكي أنه لا يهتم ولا يتابع ما يجري خارج حدود دولته، وقد لا يهتم بما يحدث ضمن حدود ولاية أخرى داخل الولايات المتحدة، معلوماته سطحية ومقولبة يتلقاها بعد عمليات فلترة معقدة تضمن تدجين الإنسان، وترويضه لتقبل الرواية الرسمية أو شبه الرسمية التي تقدم الإجابة عن سؤال: لماذا يكرهوننا؟
لا يعلم الأمريكي إلا أشياء سطحية عن مأساة أفغانستان والعراق، وكل ما يعلمه أن جيش بلاده ذهب إلى الأولى لمطاردة «الإرهابيين الأشرار» دون تفاصيل عما جرى من أهوال بعد ذلك، وأن هذا الجيش ذهب إلى العراق لنشر الديمقراطية وتمدين العراقيين الذين لا يستطيع هذا المواطن تقبل فكرة أنهم قاوموا الأمريكيين الذين جلبوا لهم الحرية والديمقراطية.
رغم أن بعض جنود المارينز نشروا كتباً وكتبوا الكثير عما فعله «جيش التحرير الأمريكي» في العراق. يقول لوكاس غيج أحد جنود المارينز الأمريكيين الذين شاركوا الحرب على العراق، والذي كان يظن أنه في مهمة مقدسة لإنقاذ العراقيين، قبل أن يكتشف الحقيقة المرة التي رآها من خلال تصرف قوات الاحتلال الأمريكي في العراق، يقول:»على الرغم من أن الحرب قد انتهت، فإنني لم أنتهِ من القتال، فأعداؤنا الحقيقيون ليسوا موجودين في أرض أجنبية، بل هم موجودون هنا في العاصمة (واشنطن) «، لتسقط بعد ذلك ذريعة «إسقاط الديكتاتور» العراقي على يد القوة العظمى التي دعمت ولا تزال ديكتاتوريات كثيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ثم جاءت للعراق لتحريره من صدام حسين.
ولكن من هم «الأعداء الحقيقيون» الذين يقصدهم الجندي غيج، إن لم يكونوا أولئك الذين قصدهم الرئيس الأمريكي داويت آيزنهاور الذي وقف يوم 17 يناير من عام 1953 في آخر خطاباته، محذراً من نفوذ «المجمع الصناعي العسكري» الأمريكي، وخطورته على الولايات المتحدة، قبل غيرها؟، وهؤلاء الأعداء الحقيقيون هم الذين يتجاهلون اليوم حركات الاحتجاج القوية داخل وخارج الولايات المتحدة، ضد الحرب على غزة، لأن الحرب دائماً تمثل خسارة لجميع الأطراف عدا أولئك الذين يستثمرون فيها.
ولعل فيما فعله الأمريكيون في بلدين مسلمين إجابة عن السؤال الساذج: لماذا يكرهوننا؟، لكن الشق الإسرائيلي من الإجابة يظل الأكثر إلحاحاً عند التعرض لتلك الإجابة التي يحاول المسؤولون في واشنطن وغيرها من عواصم الغرب أن يقولبوها على الشكل الذي يخدم استمرار سردية «الغيرة والحسد من قيمنا في الحرية والديمقراطية وحرية التعبير والدين والاختلاف».
لا يعرف الكثير من الأمريكيين أن طائرات أف 16 الأمريكية هي التي قتلت آلاف الفلسطينيين، ودمرت نصف مساكن غزة في الحرب الأخيرة، القنابل الذكية والصواريخ الموجهة، ذخيرة المدفعية والأسلحة الخفيفة، تحريك حاملات الطائرات والغواصات النووية والمدمرات، رغم أن إسرائيل تعد ضمن البلدان الأقوى من ناحية التصنيع الحربي، عدا عن أكثر من ثلاثة مليارات دولار التزام سنوي أمريكي لإسرائيل على شكل مساعدات عسكرية، غير المساعدات العسكرية الطارئة، وبرامج التسليح المشترك، والمساعدات الاقتصادية، وغيرها من مساعدات بلغت حتى عام 2023 قرابة 160 مليار دولار، دون ذكر الحماية الأمريكية لإسرائيل داخل مجلس الأمن، أو التعرض للأدوار الأوروبية في زراعة إسرائيل في المنطقة، لأغراض لا تخفى على أحد.
يشير الكاتب الأمريكي اليهودي ديفيد وليشنسكي إلى إن العالم الإسلامي يشعر بمرارة الهزائم المتلاحقة التي مني بها بسبب الغزوات الغربية المتكررة ضده، منذ الحروب الصليبية وموجات الاستعمار الحديث، والحرب العالمية الثانية التي جعلت العديد من البلدان العربية ساحة لتصفية حساباتها، رغم أنه لا ناقة للعرب ولا جمل فيها، قبل أن تنتقل زعامة الجنوح الإمبريالي فيما بعد من أوروبا إلى الولايات المتحدة.
ويورد وليشنسكي عدداً من الإجراءات التي تخفف من منسوب الكراهية ضد الولايات المتحدة في المنطقة، وفي مقدمتها أتباع سياسات أكثر توازناً في الشرق الأوسط، وهو ما يعني الكف عن سياسة الانحياز الفاضح لإسرائيل، في مطلب يبدو مستحيلاً، إذا ما أخذنا في الاعتبار ما تمثله إسرائيل من مصالح لقوى الهيمنة الدولية.
وبعد ما سبق ذكره ـ وهو نقطة في بحر ـ من مظالم يتعرض لها العرب والمسلمون يظل هناك من يجرؤ على طرح سؤال ساذج من قبيل: لماذا يكرهوننا؟، رغم أن الذين يثيرون هذا السؤال يعرفون الإجابة الحقيقية والدقيقة، ولكنهم يثيرون هذا السؤال، على الطريقة البلاغية التي تستدعي ما يريد السائل من إجابة، من أجل المزيد من الشحن من ناحية، والتغطية على الإجابة الحقيقية لهذا السؤال، من ناحية أخرى، وكأن الهدف من طرح السؤال هو تكريس فكرة أن المسلمين أو أكثريتهم يكرهون الولايات المتحدة، للأسباب التي ذكرها جورج بوش في سبتمبر 2001، وليس لأن الإدارات الأمريكية المتعاقبة ـ ديمقراطية أو جمهورية ـ تذيب الفروقات بينها، عندما يتعلق الأمر بالموقف من الصراع العربي الإسرائيلي، والالتزام الأمريكي بأمن إسرائيل وتفوقها على كل جيرانها العرب، لمعرفة «الدولة العميقة» أن إسرائيل هي طليعة الهيمنة الأمريكية-الغربية في المنطقة العربية، وهو ما يحتم إعادة صياغة السؤال أعلاه، ليصبح: لماذا ينبغي أن يحبونا؟ بدلاً من الصيغة الساذجة أو الماكرة التي أوردها سيء الذكر جورج دبليو بوش.
*من صفحة الكاتب في فيس بوك.. القدس.