ليانة بدر تتخيّل فلسطين في 2048: أرض السلحفاة رواية تبتعد عن أحداث الحروب العابرة
تتخيّل الكاتبة الفلسطينية ليانة بدر في روايتها “أرض السلحفاة” مستقبلا مختلفا للصراع العربي الإسرائيلي من خلال تذكّر شخصيتها الروائية لأحداث سابقة للعام المستقبلي الذي تسرد منه وهو 2048. تخيّل يبتعد عن مجرى أحداث الحروب العابرة، أو الإمكانات السياسية المتصالحة، إلى أفق آخر يلتحم فيه الفعل البشري الرهيب مع احتدام الطبيعة وتفاعلها.
فقبل هذا العام المستقبلي بثلاثة عقود، يعمّ خراب عظيم بسبب استخدام قنابل هيدروجينية وفراغية “زلزلت الأرض وأبادت قسما كبيرا من السكّان” كما أنّها هيّجت المحيطات “فاندفعت لتمحوَ المدن الساحلية البهيجة وتغمرها بأكملها”.
لا تخبرنا الراوية بمستقبل العالم كلّه على الرغم من إشارتها إلى أن البشر جميعا باتوا “يتحدَّرون من نوعين لا غير: “أهل الجبل وأهل البحر”، ونجدها تركّز على ما ستؤول إليه حال أرض السلحفاة التي تبدو تمثيلا لأرض فلسطين مع أن كلّ هذا الخراب جاء بعد تحدّ بين “حاكم أقوى دولة في شمال الأرض” و”آخر في أقصى جنوبها”. إذ حاول كلّ منهما أن يبرهن على أنّه الأقوى نوويا وكان لكليهما “طبعٌ نزقٌ وحادُّ المزاج ومصالح تجارية متعارضة”.
في هذا التحوّل المتخيّل الهائل لم يعد هناك من منجى سوى الجبال، حيث يتدرّب أهله على القفز بين الهضاب والقِمَم المتباعدة “مثل الرجل المطاطي الذي ظهر للمرّة الأولى بين شعب صغير كان مهدّدا بأخطار كبيرة يُدعى الفلسطينيين”
طفرات وراثية
في هذا التحوّل المتخيّل الهائل لم يعد هناك من منجى سوى الجبال، حيث يتدرّب أهله على القفز بين الهضاب والقِمَم المتباعدة “مثل الرجل المطاطي الذي ظهر للمرّة الأولى بين شعب صغير كان مهدّدا بأخطار كبيرة يُدعى الفلسطينيين”. فبعض هؤلاء وبسبب الجدران العالية التي أقامها المستعمرون لتفصل بين القرى والمدن والعائلات تطوّرت قدراتهم “عبر طفرة وراثية أنتجت جيلا من عابري الأسوار العالية”. في ما يعيش أهل البحر على قوارب فوق الماء ويتربون على المكوث تحت المياه “لكي تنجو الأجيال القادمة من مصير قاس لحق بالأوائل”.
Getty ImagesGetty Images
القدس القديمة عام 1938
أمّا مستقبل “الدولة التي اضطهدتهم” فقد صار هدف وجود الكثيرين فيها “الدفاع عن تفوقهم على أولئك الفقراء المحبوسين وراء الأسوار، وذلك بالكتابة على ما تبقّى من الطرق الخَرِبة والجسور المنهارة والبنايات الضخمة الآيلة للسقوط بسبب عنف الفيضان”، فنجد عباراتهم: “لم يعد لدينا شريكٌ في السلام” و”الأرض والفضاء لنا وحدنا” و”قراركم ملك لنا” و”سنبقى شعب الله المختار رغما عنكم”.
ومع عدم ظهور تصوّر كلّي واضح لهذا المستقبل المتخيّل، تمضي الساردة في مستوى آخر لتخبرنا: “بعد أن غرق الكثير من سكّان الأرض، لم تعد هناك أعراقٌ متنوعة بل عرقٌ بشريٌّ واحدٌ يتمتع أصحابه بأشكال مختلفة وألوان متعدّدة، وصار اسمه جنس “حب البقاء” وسبق ذلك إعلان الأمم المتحدة التي تحوّلت إلى كيان معنوي موجود على الأجهزة الذكية فقط”.
هذه الفكرة المتخيّلة لا نجدها محور الشرد في الرواية، وإنّما تأتي من منطلق تصوّر ميتا سردي لفكرة كتابة رواية داخل الرواية، في سياق تتمركز فيه بنية السرد على حدث عودة الساردة إلى بلدها بعد ستّ وعشرين سنة امتدت منذ 1967. عودة تأتي في إثر “اتفاق أُوسلو”، بعد منافٍ وحروب وأحداث كثيرة تتنقل بينها الراوية عبر أزمنة متداخلة تبدأ منذ عبورها الجسر الذي سيوصلها مع صناديق أشيائها إلى بلداتها التي شهدت فيها مراحل عمرها الأولى. فتبدأ بتذكّر الشاعرة الشهيرة وشقيقها الذي منعها من الخروج عشرين سنة بعدما تلقت وردة من زميلها في المدرسة. وهناك تراقب رفض دولة الاحتلال الانسحاب من أماكن كثيرة والمسيرات الكبيرة المناهضة للاستيطان واكتشافها تفاصيل خريطة المدينة الجديدة، حيث الاعتقالات والعلاقات الإنسانية ما وراء الحواجز والسجون، فتلاحظ أن البلاد قد جُرِّدت من كل ما فيها “بعد أن نهبت أراضيها، وتم تسييح بحرها وانصرف أهلها عن زراعتها وفلاحتها لكي يشتغلوا في العمل عند مستعمريهم بحثا عن لقمة العيش”.
وبقوانين عسكرية مُنع الأهالي من إقامة التجمعات التي تتجاوز الأعراس أو المآتم. فلم يعد مسموحا وصول الكتب العربية، وأغلقت المكتبات وصالات السينما والعروض المسرحية. ومع هذا نجد في المقابل من يقف ضد المهرجانات الفنية وبنبرة متطرفة دينية حيث اعتقدوا أنّها جالبة للفسق والفجور.
هذا التنوع السردي يظل في إطار لغة عمادها الانزياحات الشعرية المكثفة على الرغم من ارتباطها بواقع الحواجز والحصار والاعتقالات، بل والموت، موت الأطفال الذين يرمون المحتل بالحجارة بعدما ضاقوا من قوانينه التمييزية وعنجهية سلوك عساكره
جماليات المكان
نمضي مع الساردة إلى رام الله ونابلس والقدس وحيفا حيث تقدّم لنا جماليات المكان الفلسطيني في أشجاره وبيوته وتطريز الأثواب المدهشة والرقصات والحكايات والأغاني، كما تصوّر لنا التحولات التي تراها مع وجود المحتل حيث ترتبط الأسئلة الوجودية الكبرى عن الحق في الحياة بالأسئلة اليومية المعتادة حول معوّقات الحركة والتنقل والعمل والحب أيضا. وذلك بطرق سردية تتراوح بين الوصف والقص واليوميات والتعليق.
إلاّ أن هذا التنوع السردي يظل في إطار لغة عمادها الانزياحات الشعرية المكثفة على الرغم من ارتباطها بواقع الحواجز والحصار والاعتقالات، بل والموت، موت الأطفال الذين يرمون المحتل بالحجارة بعدما ضاقوا من قوانينه التمييزية وعنجهية سلوك عساكره.
مؤلفة “نجوم أريحا” و”عين المرآة” تواصل في هذه الرواية الصادرة عن “دار الأهلية” في عمّان سرد فلسطين، كما عملت في كلّ رواياتها وقصصها السابقة، بل وفي كلّ أعمالها الصحافية. فهي من جيل فلسطيني لا يبدو أنه انشغل بقضية، أو بمسألة غير فلسطين، ولهذا جاءت هذه الرواية بمثابة ذاكرة لهذه القضيّة أو استعادة لها، إذا ما أردنا أن نفكّر في جوانبها الإنسانية غير المحدّدة.
- روائي يمني يقيم في فرنسا – المجلة.