منبر حر لكل اليمنيين

القتل بضمير مرتاح

11

ما قاله ميكافيلي عن ضرورة وجود عدو للسلطة السياسية لكي تهرب من مشاكلها والتزاماتها المحلّية، صار يُمارس بمستويات عديدة سواء من خلال سلطات البلدان أو الميليشيات التي تبحث عن مشروعية وجودها. ولكن هل يمكن إيجاد هذا العدو إذا لم يكن قد صار محقّقا في الواقع؟

يفترض بيار كونيسا في كتابه “صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح” مراحل شتى لصنع العدو: “أيديولوجيا استراتيجية محدّدة، خطابا، صنّاع رأي ندعوهم المحدِّدين، وأخيرا آليات صعود نحو العنف”. وذلك قبل أن يصنّف أنواع الأعداء، فهناك العدو القريب والخصم العالمي والعدو “الحميم” و”الهمجي” و”المحبوب” والعدو التصوري والعدو الإعلامي. وهي عداوات تتخلّق بسبب نزاعات على الحدود والأراضي أو “للسيطرة على خريطة ما”، أو على شعب محتل.

وهناك “حرب الخير ضد الشر” التي لا تقتصر على النزاعات الدينية “إذ هي أيضا حرب الأنظمة الشمولية الكبيرة العلمانية في القرن العشرين”.

يلاحظ كونيسا أن الخاضع للاحتلال يبدو لدى المحتل “صورة للبربري” أو الهمجي الإرهابي الرافض للنظام القائم، ولهذا من أجل “فرض السلام” تسمح “هذه المسلمات بتبرير استخدام القوّة العسكرية”، حيث يمارس القتل بضمير مرتاح، ودون إعطاء وضعية “المقاتل العدو” للآخر

وهنا يظن بيار كونيسا، وهو باحث ودبلوماسي فرنسي، أن الديمقراطية ليست حاملة للسلام بذاتها وإلا لما قامت “الاستعمارات الفرنسية والبريطانية قط، ولما وُجد الأميركيون في العراق، ولما استعمر الإسرائيليون الأراضي المحتلة” ويرى أن “حقيقة الديمقراطية التي لدينا مجتزأة. ويشكّل تأسيس دولة إسرائيل بالنسبة إلى يهود العالم كلّه نهاية اضطهاد طويل بلغ ذروته في الـ Shoah))، أي الإبادة التي ارتكبها الأوروبيون، لكن ليس لها أي معنى في البلدان الإسلامية التي أمّنت بشكل واسع، وعلى مدى قرون عدّة، الحماية لليهود الذين طردهم المسيحيون”.

يتناول كونيسا الكثير من النزاعات والحروب في هذا الكتاب، الذي ترجمه للعربية نبيل عجان، وإذ نعود إليه في ظل الحرب على غزّة هذه الأيام فإننا سنلاحظ فيه تصريحات للشخصية الإعلامية الشهيرة برنار هنري ليفي نُشرت في مجلة لوبوان الفرنسية في 8 يناير/ كانون الثاني 2010 قال فيها إنّه “متأثر جدّا بصور الأطفال الفلسطينيين القتلى” وإنّ “عمليات القصف الإسرائيلية على غزّة كان من الممكن توجيهها بشكل أدق وأن تكون أقلّ حدّة”، وما سوف يشرحه في بقيّة التصريح يكشف أن مصدر تأثره هو الخوف على صورة “إسرائيل التي تم تحقيرها وشتمها وشيطنتها”، فلا توجد حكومة في العالم )”أو بلد غير إسرائيل”، حسب زعمه(، تستطيع “أن تتحمل رؤية آلاف القذائف تنهمر على مدنها لسنين طويلة. والشيء الأكثر إثارة للانتباه في هذه المسألة، وهو الموضوع المدهش الحقيقي، ليس (وحشية) إسرائيل بل، حرفيّا، ضبط نفسها لهذه المدّة الطويلة”. وفي كلام يشبه ما نسمعه هذه الأيّام، من قبل نتنياهو وأعوانه، قال إنّ العدد الكبير من ضحايا القذائف الإسرائيلية لا يعني أن “إسرائيل تقوم بـ (مذبحة) بشكل متعمد، ولكن بأن قادة غزّة قد اختاروا التصرف المناقض” وعرضوا سكّانهم كـ “دروع بشرية”، وبالنسبة إليه فإن ما يخلّفه الإسرائيليون من أضرار مدنية فظيعة يسمى في لغة الحرب “الأضرار الجانبية”.

ويمكننا تبعا للتصنيفات السابقة المحدّدة لدواعي الحرب أو صُنع العدو أن نعتبر برنار هنري ليفي أحد صنّاع الرأي المحدّدين لإيجاد العدو وإن لم يقل المؤلف هذا. لكن كونيسا يلاحظ أن الخاضع للاحتلال يبدو لدى المحتل “صورة للبربري” أو الهمجي الإرهابي الرافض للنظام القائم، ولهذا من أجل “فرض السلام” تسمح “هذه المسلمات بتبرير استخدام القوّة العسكرية”، حيث يمارس القتل بضمير مرتاح، ودون إعطاء وضعية “المقاتل العدو” للآخر. فالاحتلال “قبل كلّ شيء هو ادعاء تاريخي وثقافي (…) ويبرّر القائم بالاحتلال وجوده كشرعية نابعة من الماضي أو من الثراء الذي سببه”.

يوضح الحكم الذي أصدرته محكمة الاستئناف في فرساي قرب باريس عام 2005 بحق عالم الاجتماع الشهير إدغار موران والنائب الأوروبي السابق سامي نايير والكاتبة دانيال ساليناف “أن انتقاد إسرائيل يُعدّ تشهيرا عنصريا”

ويمكنه من هذا الموقع أن يقترح على الخاضعين للاحتلال التسليم بالأمر من خلال البقاء في دولة واحدة، “يمكن للعرب أن يعيشوا بسلام في دولة يهودية. يوجد مكان للجميع”، حسب قول المستعمر شمعون كارنييل المقيم منذ 1967 في الأراضي المحتلة. ونتنياهو الذي يرفض التخلي عن الاستيطان في الضفة الغربية يرى أن الفلسطينيين يرفضون “اليد الممدودة” ولا يريدون السلام. وهي الحجّة ذاتها التي استخدمت خلال الأبارتهايد عندما أنشأت سلطات بريتوريا البانتوستات “وهي نوع من المحميات على نمط المجمعات الهندية التي كان على السكان المحلّيين أن يرضوا بها”.

ما يمكن أن نشير إليه، أن الكتاب التي احتوى على الكثير من الإشكاليات المتعلّقة بصناعة العدو من خلال أحداث متفرقة في أميركا وفرنسا والجزائر والعراق ولبنان وفيتنام وإيران واليونان وتركيا وإسبانيا وصربيا والهند والصين وأفريقيا وغيرها، يتناول نظرية المؤامرة في عدد من الوقائع ومن ذلك اعتبار “كلّ نقد موجّه لسياسة تل أبيب” معاد للسامية. “وعندما يأتي النقد من مفكّرين يهود، تبتكر لهذا الغرض فكرة (كراهية الذات)، وهو مبدأ أرسطي قديم يضع المخاطب موضع تساؤل، لكي لا يكون تفحّص النقد واجبا”. وقد صرّح شلومو ساند الذي هاجمه نقاد فرنسيون بسبب كتابه “اختراع الشعب اليهودي” بالقول إنّ “باريس ليست تل أبيب. ولإسكات المعارضين في فرنسا، يكفي التلميح بأنّهم معادون للسامية، أو ربما لا يحبّون اليهود بشكل كاف، لا شيء أسهل من ذلك”.

ويوضح الحكم الذي أصدرته محكمة الاستئناف في فرساي قرب باريس عام 2005 بحق عالم الاجتماع الشهير إدغار موران والنائب الأوروبي السابق سامي نايير والكاتبة دانيال ساليناف “أن انتقاد إسرائيل يُعدّ تشهيرا عنصريا”.

هكذا، يخلص المؤلف إلى وجود عادة عند الغربيين لا تصدأ تتمثل “بإعطاء الدروس للكون، فالغربيون الذين تسببوا باندلاع نزاعين عالميين، وإبادة عرقية لا مثيل لها، واستعمروا الكوكب، وقادوا حروبا ذرية وكيماوية، ينبغي أن نذكّرهم ببعض الحقائق”. ويبرّر انتقاداته للديمقراطيات أكثر من الديكتاتوريات بالقول إنّ لديه “أمل أكبر في مقدرات المجتمعات الديمقراطية على إصلاح نفسها”.

**نقلا عن المجلة كاتب وروائي يمني يقيم في باريس.

تعليقات