الوطني والسياسي في الغناء تصورات حول الاختلاف والتشابه
عند الحديث عن الغناء السياسي بشكل عام، يتبادر سؤال حول درجة اتصاله بالغناء الوطني، وتحديدًا وجه الاختلاف بين الاثنين. وهذا مدخل رئيسي لتوضيح طبيعة الغناء السياسي واختلافه مع الغناء الوطني. وهذا الأخير يغلب عليه شكلٌ من الإجماع الوطني ويقترن مع الخطاب الرسمي، مقارنة بذلك الذي يمثّل مسارًا غير رسمي.
يمكن تعريف الغناء السياسي، بكونه احتجاجيًّا أو ناقدًا. ومع ازدهار هذا النوع من الغناء خلال القرن العشرين، واتصاله بحركات تغيير اجتماعية وسياسية، أصبح يُعرف، في سياق أكثر شمولية، بالغناء المُلتزم.
وبعيدًا عن المُسميات، يتسم النمطان الغنائيان بمضامين يمكن التفريق بينهما، ومن منظور تناولنا يمكن تحديد مسألة جوهرية. يمثل الغناء الوطني توافقًا يشمل غالبًا كل الأطراف السياسية والمجتمعات المحلية. وفي العادة يُعبر عن الخطاب الرسمي، أما الغناء السياسي أو المُلتزم فخطابه احتجاجي أو تضامني مع حركات تغيير اجتماعية وسياسية.
يتسم الغناء الوطني بمضامين شعاراتية، تُعزز حب الوطن ومفاهيم الانتماء الوطني والقومي. ويتضمن معاني ممتلئة بالزهو الوطني، ويستمد خطابه من التاريخ الوطني والحضاري والأحداث السياسية المهمة المرتبطة بالكفاح الوطني.
ازدهر الغناء الوطني مع تشكّل الدول القومية والوطنية، وتحديدًا في القرن التاسع عشر. مع أن ظهوره يعود إلى ما قبل ذلك، ولسنا بصدد إيجاز تاريخي لهذا النوع من الغناء. ويمكن القول إن الغناء السياسي جاء لاحقًا، أي مع تشكّل الدولة الوطنية، وتحديدًا مع تطور الحياة السياسية وتعددها. فهو مصاحب لظهور حركات التغيير والنضال الوطني أيضًا.
غير أنّ ما هو غناء وطني، يتسم برمزية تحظى بالتبجيل الشعبي. ويكرسه الخطاب الرسمي كنوع من أنواع سيطرتها، وتأكيد مضامينها السياسية. ويمثل النشيد الوطني ذروة هذا الغناء الرسمي الوطني، ويصاحب الفعاليات الرسمية محليًّا، وأيضًا خارجيًّا ضمن مراسيم اللقاءات مع زعماء الدول أو ممثلي الحكومات الأجنبية. لكن يتفق أن يصبح له رمزية للمواطنة بالنسبة لأي شعب، فهو يمثل الشعوب والحكومات على حد سواء.
وهكذا، يتسم بشكل من القداسة والاعتراف الوطني، وعندما تكون هناك مجتمعات أو جماعات لا ترى فيه تمثيلًا لها، فإنه علامة على وجود شقاقات عميقة، قد تتطور إلى حركات تمرد أو انفصال. وفي الدول ذات طبيعة الحكم الملكية، فإنها غالبًا ما تشير إلى الملك، بوصفه رمزية توافق سياسي. حتى بالنسبة للملكيات ذات طبيعة الحكم الديمقراطي، على سبيل المثال: النشيد البريطاني الذي يبدأ مطلعه “ليحمي الله الملكة”.
وفي بريطانيا، هناك مواطنون يعتبرونه مخلًّا بالديمقراطية، أي إن رفضه يتسم بطابع محدود، لا يعني إلغاء الحضور الرمزي للملكية، إنما إزالة تلك العلامة التي تعود لمرحلة ما قبل ديمقراطية. ومن الممكن تعديله ليصبح مطلعه “ليحمي الله بريطانيا” بدلًا عن الملك أو الملكة.
أما في الملكيات غير الديمقراطية فإن الاحتجاج على النشيد الرسمي، قد يعني احتجاجًا على وجود نظام ملكي، واستبداله بآخر جمهوري. وأرى أن من الجيد ألّا تستخدم تلك الأنظمة نشيدًا رسميًّا مضمونه الوطني عام، دون أن يحمل إشارة للملك أو الملكية.
وإذا تعاملنا مع رمزية النشيد الرسمي من منظور سلطة الدولة السياسية على نطاق جغرافي معين. فإن رمزيته تناظر ما كان سائدًا في القرون الوسطى لدى المجتمعات الإسلامية، عندما كان الاعتراف بحكومة معينة يحضر على منابر المساجد بالدعاء لأمير أو ملك. وأحيانًا يقتصر هذا الاعتراف السياسي على الدعاء للخليفة أو الملك، دون أن يكون هناك سيطرة مكتملة الأركان. وهذا ما يحمله النشيد في الوقت الحالي.
على أنّ هذا النشيد الرسمي، يتسم أيضًا بدلالة سياسية. كما سبق أن أشرنا بأنه يصبح محل جدل. ففي المناطق ذات النزعات الانفصالية، فإن إسقاط النشيد الرسمي، يماثل سقوط العلَم الوطني. وهو ما نشاهده اليوم في مناطق سيطرة المجلس الانتقالي في عدن ومحافظات أخرى، حيث يُعزز نزعته للانفصال بحظر النشيد الوطني اليمني. وبالتالي اختفى النشيد من المدارس.
يتصل هذا الخطاب الغنائي، ببعده الوطني، بدلالة سياسية. وهو ما يجعلنا نرى أن الغناء الوطني قد يصبح ذا رمزية سياسية، أو تعبيرًا عن احتجاج.
أيضًا، نلاحظ أنّ الحكومات التي أعقبت سقوط أنظمة، نزعت إلى استبدال النشيد الرسمي بآخر. كما هو الحال في العراق بعد الاحتلال العراقي وسقوط نظام البعث بزعامة صدام حسين. فالحكومة التي ظهرت برعاية أمريكية في بغداد، اعتمدت نشيد “موطني” وهو نفسه النشيد الوطني لفلسطين.
كان واضحًا أنّ الحكومة العراقية التي أعقبت الاحتلال الأمريكي، أرادت نسف مرحلة برمتها من خلال إسقاط النشيد الوطني الرسمي. يعود النشيد الوطني العراقي السابق “بغداد يا قلعة الأسود”، إلى قيام الثورة العراقية بقيادة عبدالكريم قاسم عام 58. والنشيد غنته كوكب الشرق أم كلثوم من ألحان رياض السنباطي، بما يحمله من دلالة تعود إلى حقبة تصاعد الخطاب القومي، وظهور ثورات التحرر في المنطقة العربية.
إذن، يحمل النشيد الرسمي دلالة سياسية عميقة، هدفه التأكيد على تغيير الفضاء السياسي في واحدة من أهم بلدان المنطقة. ورغم أنّ قرار تغييره، قد يكون مرتبطًا بمغالاة الطبقة السياسية الجديدة، فإننا لا نستبعد وجود تأثير أمريكي على القرار العراقي. لكن ما علاقة ذلك بمقولة كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي عن “شرق أوسط جديد”، وقيام بلدها بعملية “فوضى خلافة في المنطقة”.
هنا نتحدث عن سياق يتسم فيه النشيد الوطني بدلالة سياسية، أو مشترك مع الغناء السياسي. وهذا يشمل الغناء الوطني بشكل عام. ففي اليمن، كانت واحدة من مظاهر الاحتجاج على جماعة الحوثي، في مناطق سيطرتها، استهلال بعض حفلات الأعراس بالنشيد الوطني اليمني. وهي نفس الدلالة التي اتسمت بها الأناشيد الوطنية ورفع الأعلام اليمنية في شوارع صنعاء وإب للاحتفال بذكرى ثورة 26 سبتمبر عام 62. وتعود الثورة اليمنية إلى مرحلة الثورات العربية التي اندلعت عقب المرحلة الاستعمارية والملكيات في خمسينيات وستينيات القرن الفائت.
يتصل هذا الخطاب الغنائي، ببعده الوطني، بدلالة سياسية. وهو ما يجعلنا نرى أن الغناء الوطني قد يصبح ذا رمزية سياسية، أو تعبيرًا عن احتجاج.
وإذا عدنا لأناشيد “الزامل” الذي كرست فيه جماعة “الحوثي” خطابها التعبوي ضمن معاركها، نجد أنه نشيد سياسي، وإن شملت المعركة أطرافًا خارجية متمثلة بتدخل سعودي وإماراتي. ورغم أنّ هذا الزامل أصبح ضمن الخطاب الرسمي لطرف مسيطر على أرض الواقع، وبما تضمنه أيضًا من شعارات وطنية إلى جانب شعارات الجماعة الأيديولوجية، فإنه لم يحظَ بأي توافق شعبي، على صعيد الشارع، ليتم التعامل معه كخطاب دعاية سياسية لجماعة تسيطر عسكريًّا على مناطق واسعة من اليمن، وتهيمن على العاصمة السياسية والتاريخية لليمن؛ صنعاء.
هكذا، نلاحظ وجود خطين متعاكسين، فما يحظى بشبه إجماع على الصعيد الوطني في اليمن، كغناء وطني، يتم رفعه كشعار سياسي ضد طرف سياسي وأيديولوجي. وهذا الطرف يعمل على تعزيز شعاره السياسي المتمثل في “الزامل” ليصبح شعارًا وطنيًّا. لكننا أيضًا نقف أمام صراع علامات سياسية، في خضم مسار ملتبس، تواجه فيه الخارطة الشرق أوسطية، مقولة كونداليزا رايس.
وبالتالي، صراع حقبتين؛ إحداهما تعود إلى ثورات التحرر العربي، وما تلاها من أنظمة جمهورية ذات طابع عسكري، وأخرى تعود إلى ما قبل ذلك. وبعيدًا عن مشهد حملَ طابعًا شعبيًّا هدفه الثورة على أنظمة عسكرية مستبدة، فإن العلامات التي يمثلها الغناء، تحمل أبعادًا ملتبسة حول مضمون المشروع السياسي في المنطقة.
وفي جنوب اليمن، ظهر شكل من الغناء السياسي كان الفنان عبود خواجة أهم ممثليه. وهو الغناء الاحتجاجي ضد حكومة الوحدة اليمنية، وما تضمنه من شعارات تدعو لانفصال الجنوب. هذا الغناء يتسم بطابع سياسي، لكن في حال حصل جنوب اليمن على قرار الانفصال ضمن اعتراف دولي، فإن الخطاب الرسمي سيكرس هذا الخطاب الغنائي بوصفه غناء وطنيًّا جنوبيًّا.
ولن نبتعد عمّا سبق أن أشرنا له، فإن الشعار السياسي العام الذي يحمله دعاة الانفصال يرفع مسمى “الجنوب العربي”. أي إنه لا يريد العودة بالجنوب اليمني، كما كان يُعرف سياسيًّا قبل الوحدة اليمنية عام 90، إنما إلى ما قبل الاستقلال في 30 نوفمبر عام 67. أيضًا نرى أنّ النشيد الرسمي اليمني، يتعرض لاجتثاث من الانفصاليين، رغم أنّه كان النشيد الوطني لدولة الجنوب اليمني قبل الوحدة.
- من صفحة الكاتب على فيس بوك.