منبر حر لكل اليمنيين

في الداخل جثة تخصّني

32

لا أستطيع أن أتذكر أبداً أنني كنت داخل شرنقة.. ولكن أتذكر جيداً أنني وجدت نفسي، ذات صفحة من كتاب، أرفرف بنشوة صباح ربيعي على هذا التل.. أعرفه جيداً رغم آلاف العواصف، التي هزتنا معاً والشتاءات التي عرتنا كلينا من ملامحنا..

حسنا، للتذكير.. الملامح قد تستعاد حين تمر على لحظات نشوة مبكرة، أو تتوقف عند كتابة مبتكرة..

أتذكر هذا التل، الذي أضع يدي عليه الآن.. أتلمس في عشبه أصوات الحنين البكر، فترعش أطراف أناملي قلبي وجسدي الصدئين.. ثمة خزانة ذكريات كنت قد نسيت، متعمداً أين وضعتها، تنفتح الآن… ثمة رائحة عابرة أثخنت التعود يوما ما بالجراح.. وثمة دخان يتصاعد من جسد فتى عشريني كان يطمح بأن يكون شاعراً..

ما يزال التل محدودباً على أسرار الفتى الحنطي، أتذكر كيف شقت تلك الأسرار جيبه وتسربت لتصير لعاباً في أفواه النساء الأكثر نضجاً، والفتيات المغرومات بتعاقب الفصول.. ما يزال التل يبدل في العراء ألوانه ويخيط التضاريس بجريانه الشهي.. يسرق منها ما يتاح له من التجاعيد، ويبقي على ما يستطيع من ملمسها المحفور ككتابة مسندية على ظهر حجر لم يكتشفه المنقبون..

هذا التل يبدو وكأنه يستكمل حكاية ما تزال محفوفة بمخاطر الذاكرة.. والذاكرة لم تستطع بعد أن تشيخ..!! ما تزال عشرينياتها تتوالى في نفس المكان، في ذات التل الذي تهذي به الحواس الآن..

هذا التل المرتفع حتى تخوم الحنين، ما يزال يستأثر بحواسي المفقودة.. إنه يشهرها واحدة تلو أخرى، فأتذكر جيداً من أنا.. أرأني أرفرف على ملمسه الحي، وأرى الفراشات تطاردني كلما مررتُ بها، تحاول اصطياد ما يمكنها من ألوان أجنحتي..

منذ زمن بعيد لم ألتفت إلى جناحي، ما إذا كانا ما يزالان موجودين.. كان الأمر بالنسبة لي مجرد استرجاع لخيال طفل لم يبلغ الحلم.. كنت أعتقد أنني أصبحت بالأبيض والأسود فقط.. وربما بأحدهما.. الآن في هذه اللحظة يتمرأى تحليقي بخضرة التل، وأجنحتي الكثيرة تنعكس على نهر الجنة المتدفق تحت ملمسي..

أصابعي تستعيد غيبوبات الفتي المسروق.. وحواسي تحاول جاهدة ثقب الجدار الفاصل بين ذاكرتين، كلتيهما ممتلئتان بي..
على هذا التل لا أحتاج إلى تذكر جهة الغار.. كان غاراً وحيداً ومؤثثاً بي.. لا يمكن لأية ذاكرة أخرى أن ترسم تفاصيله، أو أن تملي مواعيد الضوء والظل والوقت فيه..

ذات وقت مضى وربما لم يمض بعد كتبت، أعلى بوابة هذا الغار الدافئ، قصيدة لشاعر ولد قبل التاريخ، ونسي أن يذيلها بتوقيعه.. لكنني أتذكره جيداً جيداً.. قروحه ما تزال غضة.. احتاجت فقط لمثل هذه اللحظة، و… وها أنا ذا أرفرف مجدداً على هذا التل..
كان كل شيء لا يحتاج لأكثر من شاعر واعد، كان حينها يتسلق الوقت القائظ بقدمين رطبتين.. نعم لم يكن يشبهني.. ولكنه أنا..

بلى.. هذا الغار التاريخي خاصتي.. بت أعرفه إلى حد ما.. أقف الآن أمامه وأقرأ على بابه توقيعاتي…. وفجأة أتذكر أنني تركت بداخله جثة لشاب عشريني كان، حتى اللحظة الأخيرة، ما يزال يحلم بأن يكون شاعراً..
أتراها ما تزال بقاياي متروكة في الداخل..؟!
ثمة شيء يطرق الحواس….
صوت.. مشهد.. رائحة.. ارتجافة مذاق..
شيء من كل هذا وأكثر وأبعد مسافة من الإدراك..

أشعر بالرهبة من أن أكون أنا بالداخل… صوتي يناديني من مكان.. لكن لا جهة غير الغار الآن.. هدير يبدو مهيباً، وكأن كتلا من الجليد تتساقط من سقف الغار..!! ثمة روائح وسرابات دخان تتزاحم في بوابات الإدراك، سجائر مألوفة، عطر أزق، خشب ضلوع، ورق جرائد.. أجيج احتراقات مزمنة تزحف من مكان أعمق من إقدام الكهل وأنأى من ممكنات الخيال لشاب قروي أخرق يضيع وقته في أوهام العشق….،

هل ما يزال بالداخل فتى عشريني، يحتاج إلى قلم وورق ليكتب قصيدته الأولى..؟!
ربما.. لكنه في كل الأحوال لن يستطيع أن يكون أنا، مثلما كنت للتو هو.. المشهد أكبر من يحتمله قلب لرجل واحد يركل مؤخرة الأربعين بعقبيه..!!

علي أن أسحب يدي وأنهزم أمام هذه اللحظة وهذا الباب الذي يريد أن يعبر بي الزمن رالجحيم المأمول.. سأنهزم طوعاً أو كراهية، لا يهم سيان.. المهم أن أعود أدراجي هذه المرة لدواع وأسباب خاصة جداً، على أن أعود غداً، وربما بعد غد، ولا بأس لو كان ذلك في غرة الستين، حين ينضج الفتى القروي ويصير شاعراً وقوراً ومترفعاً عن الرغبات.

تعليقات