قراءة في سرديات أحمد سيف حاشد.. كتاب “طيران بدون أجنحة”
استطيع القول بثقة أن الاستاذ (احمد سيف حاشد) اقتحم المجال السردي بدراية ومهارة تكشف عن حضور إبداعي متميز حقق الدهشة في أروع صورها، لما يمتلكه من قدرة في الصياغة الفنية باحترافية عالية. واستحضاره العميق لمسار عمر مكدود مليء بالشجن والصخب وقوة الانتماء الى الارض، والإصرار على التكون والخروج من ربقة الآسر المحبط، الى فضاء الحرية وامتلاك الكينونة، رغم كل الظروف القاهرة التي واجهها بإرادة انسان عميق في إحساسه وتساؤلاته ورغبته في الانصهار مع الحب والجمال والسمو بالذاتي الى مستوى يليق بالإنسان الواعي بالواقع ومكوناته وبتطلعاته الى عالم يسوده الوئام.
في مؤلفه السردي أنت تراه مغامرا قوي الإرادة لديه ممكنات التحول، يوظفها في الاتجاه الذي يحقق نجاحاته، كما تجد في مؤلفه أيضا القهر والذبول والخوف واتساع الظلم وقهر الحياتي الذي يكتنزه ويعتمل في وجدانه حتى يثأر ويخرج الى ما يريد، بمغامرة تارة واستبصار وحنكة تارة أخرى.
منذ طفولته الاولى سايره التعب والحرمان وبعث فيه تساؤلات جمة عن لغزية، الحياة عن هذا الذي لا يضيء في الإنسان، الذي يعيش الهوان وتجتمع فيه الفاقة والمرض والموت وفقدان الاغلى في الحياة من الأقارب، ليبقى الجرح مفتوحاً على عوالم لا تنتهي.
يقدم (حاشد) متواليات حزن غرائبي يفلسفه، ويستنطق مكامنه، ويعيشه واقعاً مريراً يدفعه الى الاحتجاج والمقاومة والصراخ في وجه الظلام. هو لذلك يشتغل على الزمن بانهماراته المتعبة ومتوالياته المتدفقة وجعاً على الذات والعالم.. يستحضر ذاته طالبا متوفقا وشغوفا بالقراءة الجهورية ومتطلعاً الى الحب وخجولاً في مشاعره التي لا يجرؤ على البوح بها. فلا يجد غير الانكسار وزحمة المشاعر وتداعيات الذاكرة في تصوره للمرأة المثال.
حاشد يكتب بطاقة خلاقة بروح مترعة بالجمال برؤية للعالم وتموجاته التي يقع في خضمها بما فيها من أحداث مؤلمة وموت بالمجان وقتال على اللاشيء وقهرية تلازم عالمه وتشتعل فيه كإنسان يكترث للحرية والحب والسلام. لذلك يصيغ حياته من مغزل المعاناة، من التوجس والريبة والتخوف من قادم لا يضيء. وله في هذا مجالاته التي يتفنن فيها ويتقن رسم المشاعر واعتمالات اليومي.
ورغم ندرة الفرح الا أنه حين يجده يحتفي به ينشط ذاكرته لمزيد من الأمل والاصرار على النجاح وجعل الحياة أكثر تهذيبا. في فضاء حلمه تكتشف إنساناً تواقاً لأن يبوح بكل ما في وجدانه وضميره ووعيه. كما يربض فيه الانسان المداري الخجول الواقع في حيرة استنطاق الذات وجعلها تصرخ حد الأغماء.
عالم حاشد هنا معاناة ترتبط بجذورها الى ما قبل تكون الذاكرة، الى ابعد من البعيد، الى اليومي الذي يراه ويرقبه بكل مراراته وانكسارات البشري فيه، وما يجيء الى عالمه من مدججين بالوقاحة واستلاب الإنسان وجوده وحريته وحقوقه التي تقنصها آلات الدمار والحرب والفوضى والفساد، والعبثي الذي يجيء بغزارة ولا يمتلك حاشد أمامه سوى الصراخ بقوة، لا يكل ولا يتوقف ولا تعتريه لحظة انكفاء واحباط..
في تداعياته لأحداث يناير 86 يكشف عن بشاعة وهول ما جرى عن القتل بالهوية وعن جوع وعطش وانكسارات يومية وكفاف بسكويت ليبقى يشاهد التعذيب في السجون وما يحشر فيها من لحم بشري في زنزانة ضيقة واصدقاء اعزاء عليه تربطه بهم ذكريات ويقتلون بلا سبب.
نحن هنا أمام ذات فاعلة مندغمه مع عالمها وتحولاته تناضل فيه لتقهر الظلامي. هكذا نجد نسغ حياة يربط الأحداث التي مر بها باليومي، بالراهن المتعثر فينا، وبالقادم الذي ربما لا يجيء، ومع ذلك الكاتب لا يكل ولا يمل في البحث عن نافذة معنى للحرية، وهي نضال واستبسال ووعي بالواقع ومكوناته.
سردية (حاشد) فضاءات متنوعة وغزيرة غزارة احلامه ومعاناته وتمرده على كل ما يحد من قدرة الإنسان ويعيق تطلعات. كما نجد فيها الإنسان التي تضج حياته بالبكاء حد الوصول الى حافة الانتحار. حاشد قارئ عميق للواقع وزحمة الأدعياء فيه. وهو مقاوم ببسالة جريء في الطرح، ينسكب بكل جوارحه في سرديته، فيبوح بكل غامض وما لا ينبغي حتى الجأر به.
لديه شجاعة الإنسان البريء التواق للعدالة والراغب في الأفضل وفي انجاز معاني وجوده بكل اسراره وتمظهرات الأحداث الحزينة والمفجعة، وحتى ما يكتنف المراهقة من مغامرات ووقوع في تأنيب الضمير. في عادته التي لا يستطيع الاقلاع عنها ويرغب في التمرد عليها.
في مفاصل اخرى من حياته نرى المحب الشغوف الذي يستدرج نفسه الى عالم المرأة فيقع في حبه المتكرر الفشل.، حتى لكأنه قد فات عليه قطار العمر الجميل ثم ما يلبث ان يفرح.. الحب لديه عيد وفرح وشوق وفضاء واسع ليبقى المرء يتحسس ذاته المتعافية من مرض قهرية الآخر، من السادية في تعذيب الآخرين. إنه حب طاهر بريء صادق لنفس ملتاعة تبحث عن الحميمي من العلاقات وتدخل في شجن الرؤية للحبيبة وتقع في فخاخ الهزيمة، هزيمة الروح التواقة لما يجعل العالم مبتهجا، وما إن يتعثر في حبه حتى يبدا من جديد.
هكذا نراه يتعلق بالمصيري، بالإنساني يحتفي به ويركض في براريه دونما كلل. إنها الذات التي تعلو على الرتيب والضيق وتفتح أشجان الذاكرة، وتطل على أكثر من معنى، ينصهر الواقع فيه بالماضي ويشتغل الماضي بكل إيقاعاته الصاخبة في الحاضر كنتيجة ردميات سابقة من الفجاجة المناطقية والعصبوية والجهوية واشياء اخرى تعيق الإنساني. في مساره الزماني كثير من التحديات.
يستحضر في الجامعة دكتور أكاديمي يحاول إفشاله ويتعالى عليه ويزدريه لكونه شمالي ومع ذلك ينتصر الطالب يحوز المرتبة الاعلى في النجاح، كما في الكلية العسكرية الذي اخذ فيها الترتيب الاول ليحوز على جائزة تفوق في معناها الواسع جائزة نوبل. هكذا ينبثق الفرح من معان بسيطة ومواقف متواضعة، ولكنها كبيرة حد الدهشة لديه، إنه شغف التواجد كمعنى رفيع يشعر المرء بقيمته متفوقا على كل ما يقف حائلاً أمام طموحه وتطلعاته..
في سرديته نقرأ جغرافيا متداخلة مبهرة من التنوع المجتمعي، والظروف الاقتصادية والتداخلات السياسية والإنسان المعجون بتربة هذا الوطن الباحث عن انعتاق. ونقرأ التنوع الخلاق في الذات الإنسانية الذي يكابد هذه الحياة بكل ما فيها من مرارة عيش واستعلاء على الآخر ومحاولة استلابه وجوده ومصادرة حريته وتفكيره ورغبته في التفرد.. لكأننا أمام شاهد عصر بكل إيقاعاته واستقراء عميق لما في الإنسان من آهة وبحث عما يعيد له ترتيب وجوده بمستوى يليق به كإنسان.
(حاشد) هنا شاهد حقيقي على مرحلة من التاريخ الوطني بإيقاعاتها الصاخبة والهادئة، المستكينة تارة والثائرة تارة أخرى، المدجنة والرافضة، لكأننا أمام وطن ومجتمع فيه الألم والأمل، مرارة العيش وحلاوته، صخب الحياة ونعومتها، عالم متموج مندغم مع بعضه، ومنفلت سائب أيضا.
السرد يفصح عن عالم مليء بالاحتقانات المناطقية والحزبية، عالم آخر علينا أن نركض وراءه لنمسك بتلابيبه حتى نفقه المغزى والمرموز له، وما يشي به من خلال حدث ما، او ترجمة لمشاعر تفيض تمرداً أو تخبو وتهدا ولا تقاوم، ولكنها تعتمل في وجدانياته لتبرز في موقف آخر صراخاً وغضباً وتمرداً واحتجاجاً ومغامرة أيضا.
هذه الغرائبية في الذات المسكونة برغبة الانتصار للإنسان تكشف عن واقع كثير الالتباس متداخل وشائك لابد من الركض في براريه حتى الوصول ليغرس راية حب وعلامة انتصار رغم كل الاوجاع التي لا تكف عن المجيء.
لـ (حاشد) أسلوبه الفني الراقي، ولغته المنسابة بالشاعرية وبروعة التصوير وبناء المفارقات بين اللحظة واللحظة. إنه يكتب بمداد القلب وشغف المعنى، يعتلي اللغة، يفتح مغاليقها، يكشف اسرارها، ويجعل منها عجينة مطواعة وروحا طرية، تأخذنا إليها عنوة ولا نستطيع الإفلات منها وهي تفاجئنا بين كل فاصلة وفاصلة، بالمدهش من التراكيب الجمالية، والقدرة على البوح بوجدانيات الإنسان.
هو إذا رصد ولاقط بحساسية بالغة لكل ما يعتمل في الواقع بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية. إنه يقدم لنا أزمنة مر عليها وسكنته وفتحت آفاقا له ليرى الإنسان في خلجات نفسه في معاناته وفي تقلبات الحال. بهذا المعنى هو شاهد على التاريخ بتفرعاته الوطنية وبنبض الريفي البسيط وبتعالي الروح التواقة للجمال الرافضة للتدجين والخنوع الباحثة عن الامن والاستقرار والمواطنة الحقة.
الاستاذ احمد سيف حاشد في سفره الرائع، يقرءنا، ويشرحنا ويضعنا وجها لوجه مع الحقيقة كماهي دونما رتوش وطلاء ومساحيق كذب. إنه عالم من التداخل بين الحلم والواقع/ بين الرؤية والاحتجاج/ بين الرفض للرتيب والقبول بالإنساني في تجلياته ورغبته في الانعتاق من المزري. (حاشد) عالم من التجوال. جواب ازمنة في زمن، وناقد حصيف لما هو حال اليومي وما يريده الإنسان لإنسانيته حتى يحقق كينونته ويعبر عن وجوده.