العملية السياسية في اليمن بين غياب الاساسات ومعطيات مظلمة قبل وبعد الانقلاب 1-2
كان صالح أكثر مرونة وبرجماتية من غيره لو لا أن الثقة كانت مفقودة لدى الآخرين وهاجس الخوف الذي عكس ضعفا في ارادة المعارضة.
تَهرّب مكون أنصار الله الحوثيين من الدخول في أي عملية سياسية منذ دخولهم ساحات الاعتصام في إطار التغييرات التي أعقبت احتجاجات الربيع العربي 2011.
بقوا بعيدين يرتبون أوراقهم بصبر بما يتوافق مع هواجسهم المستقبلية حتى أواخر العام 2014، حين أقدمت حكومة باسندوة على إقرار جرعة سعرية بواقع 500 ريال زيادة في سعر ال20 ليتر من البنزين لتصبح ذريعة لانقلاب متكامل الأركان من قبل ذراع إيران.
حتى في الحروب الستة 2004 وما قبلها وما بعدها كانت أعينهم على الكرسي دون أن يظهروا ذلك؛ استغلوا مساحة الحرية وجانب من الديمقراطية التي منحها إياهم دستور الجمهورية اليمنية 1990م، وكونوا “الشباب المؤمن” خلال ذلك كانوا يكثفون من رحلاتهم إلى إيران وتلك كانت من أخطاء النظام السابق الفادحة.
لم يكن الحوثيين قد أفصحوا بعد بأنهم يسعون لطاولة مستديرة لا تتسع لأكثر من طرف بكرسي واحد، وجغرافيا لا تعرف سوى الزعيم الواحد والحكم الأحادي والبعد الواحد والفكر الواحد والعقيدة الواحدة.
كانت الرغبة لدى بقية الأطراف تمضي بشق مسار مختلف، بما يتناسب مع توجهات الرئيس هادي، ومن يدعمه من خلف جدران الأحداث إلى جانب قوى قديمة جديدة، لكن تلك الرغبة كانت مقيدة بشروط الواقع الجديد والعلاقات الدولية والمحلية والاقليمية والمتغيرات المواتية في المنطقة وان لم تتضح صورتها بشكل جلي إلا متأخرًا.
في الحقيقة شكل “الربيع العربي” بأدواته البارزة وشخوصه الفاعلين حلقة من التيه، بحيث أصبحت هناك التزامات جديدة لا بد من العمل بها، كانت أقرب للشعارات التي من الصعب ترجمتها في ظل واقع معقد، وارث سياسي مركب، وبنية اجتماعية متداخلة حد الانفجار.
كانت هناك معطيات وشواهد لارث سياسي واجتماعي ليس من الحكمة تجاوزها ولا بد من التعامل معها بصورة مرنة، كالارتباط بين الدين والدولة والقبيلة والمال والوجاهات، حتى وان بدت مشارَكة طرف قبلي أو ديني في عملية التغيير على أنها فاعلة أو تشكل ثقل، إلا أن طرفا آخر بكل تأكيد سيشعر بأنه قد تم اقصاؤه.
كان الحوثيين يسعون للجلوس على طاولة واحدة لا تتسع لأكثر من طرف وقد تحقق له ذلك.
اكثر من خمسون الف وظيفة
كان صالح أكثر مرونة وبرجماتية من غيره لو لا أن الثقة كانت مفقودة لدى الآخرين وهاجس الخوف الذي عكس ضعفا في ارادة المعارضة.
من ضمن الإصلاحات الذكية التي اقرها الرئيس الراحل علي عبد الله صالح وتم ترجمتها بشكل فوري دون تأجيل، هو استيعاب أكثر من (خمسين ألف) وافد جديد على الوظيفة العامة معظمهم كانوا ينتظرون الفرصة منذ أواخر عام 90م.
تمت العملية بسلاسة أثبتت نجاح العمل المؤسسي حينها والذي كان يعتبر في نظر المعارضة هش وضعيف لكن مع الأيام أثبتت الهيكلة الوظيفية القائمة بأنها ذات أهمية وأنها فاعلة.
فقط كانت تحتاج لبعض الإصلاحات أو بالأصح إلى إزاحة قشور من “الروتين” الذي شكل ازدواجية معايير وبعض المحسوبية والحسابات السياسية لا أكثر.
لكننا فقدنا كل ذلك لصالح مشروع قائم على (الفوضى).
المبادرة الخليجية
تم تتويج الصراع باتفاق الرياض (المبادرة الخليجية) من قبل الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية في 3 أبريل 2011 الهدف منها منع توسع الاحتجاجات والترتيب لنقل السلطة بانتخابات رئاسية جديدة في فبراير 2012.
تم الاتفاق بين القوى السياسة برعاية الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز وبوعود ورغبة واضحة من قبل الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، غير أنه كانت هناك لهجة سياسية ورغبات منقسمة؛ و”ثقة” لا تزال مفقودة؛ الحلقة التي ظلت بين الفرقاء وتركت فرصة للحوثيين بالسيطرة المطلقة والكاملة على البلد.
شكلت القيادة مسار تم أتباعه عقب المبادرة من أجل خروج البلاد من أزمته، وهو ما لم تكن القوى الثورية الواقفة خلف شعارات يصعب ترجمتها في ظل تعقيدات كبيرة على وفاق معه، باستثناء القيادات التي كانت على اطلاع وكانت ملزَمة أن تخوض معترك جديد بحكم الاتفاقية وحاجتها للدخول في السلطة كشريك أساسي ولأول مرة، مع ذلك جعلوا من الأمر حصان طروادة بين النظام السابق وحماس الشباب.
بدأت المتغيرات في المؤسسات والوظيفة العامة ومحاولة الاستحواذ، ما أدى إلى خلق صراع شرس نجح من خلاله الحوثيين في ترتيب ما تبق من أوراق حتى حان وقت الخروج إلى “شارع المطار” أو الضاحية الشمالية القريبة من منطقة (الجراف) المركز والحاضنة، كردة فعل ضد الجرعة السعرية التي ارتفعت في دبة البنزين بواقع 500 ريال كذريعة لبدء الانقلاب.
الأنظار نحو المعضلة الخطأ
كانت الأنظار مصوبة تجاه الصراع بين جناحي الرئيس الجديد والرئيس السابق، صراع تغذيه ذهنية عقدين من الزمن، كان فيها الرئيس هادي في الظل أو كومبارس كما صورت ذلك؛ الأطراف الباحثة عن مقعد جديد في دكة السلطة المنبثقة عن ما سمي بالثورة؛ وهو ما جعل من الرئيس هادي وأولاده يسعون للتخلص من تلك العقدة دون النظر للمآلات، من خلال الصدام مع جناح المؤتمر الشعبي العام الذي ينتمي إليه صالح أو مع صالح شخصيا بصور ملتوية وبدعم “الفرقة الأولى مدرع”.
اختار هادي نمط تقليدي في إدارة المشهد السياسي لم يكن متينا بحسابات الحالة اليمنية؛ حيث غابت عن باله كثير من الأمور التي يجب أن يتمتع بها كرئيس، معتقدا أن جولات من الصراع قد تدور ما سيخفف عليه كثير من الأعباء التي يتخوف منها.
لم يكن يعي أن الأمر ليس بتلك التصور، وأن محيطه معقد، شكل جناح صالح وحزب الإصلاح والحوثيين (ثلاثي)، بحيث أن لكل منهم مسار باستثناء الإجماع على إزاحة (صالح) من المشهد برمته.
كان هناك بعض التقارب الذي يبدو بين المؤتمر والحوثي مع الفارق الكبير، فيما كان هادي الجناح الرابع الذي يستشعر الغربة كونه من الجنوب رغم العمر الذي قضاه في صنعاء خلال عقدين من الزمان ورغم الدعم الإخواني المنقطع النظير له.
هل كان هادي غبيا بالمعنى الحرفي؟ ربما ليس كذلك لكن بحساب المخرجات فإنه من يقف وراء انهيار هذه المنظومة ويتحمل المسؤولية نتيجة الممارسات التي فضل السير عليها ويتحمل الكثير من تبعات السقوط، هذه القراءة قبل أن يأتي أواخر العام 2014 حاملا معه الكارثة.
سعى هادي إلى ترتيب عملية سياسية بذهنية ضابط يدير معركة، وليس رئيس دولة تمر بأزمة سياسية خانقة، بالإضافة إلى شعوره بأن هناك من يتربص به لتظل هواجس التدخل الأجنبي واحدة من الحلول التي استعان بها لاحقًا أو أنه نفذ أوامر جاهزة لا أكثر مثلها مثل معركة التحالف التي لم يكن يعلم بها مطلقا.
سعى هادي إلى ترتيب عملية سياسية بذهنية ضابط يدير معركة، وليس رئيس دولة تمر بأزمة سياسية خانقة.
مؤتمر الحوار الوطني الشامل
لقد شكل مؤتمر الحوار الوطني الشامل، 18 آذار/مارس 2013 حتى 25 كانون الثاني/يناير 2014، الذي عقد في العاصمة صنعاء بين كافة المكونات السياسية الحزبية والمستقلة، منعطف مهم في الاضطرابات السياسية لكنه لم يستغل كما يجب.
تم توظيفه بصورة سيئة رغم المساحة التي وجدت وكانت كفيلة بحل كثير من العقد والتعامل بكل شفافية وتجاوز بعض الإشكالات التي كانت الأطراف تعتقد أنها عقبة منها مصير أسرة الرئيس صالح في الحكم، وأعتقد الجميع أنه وبصياغة وثيقة حملت الكثير من النقاط وطباعتها في كتاب قد انتهى الأمر.
لم تكن المخرجات فاعلة على الأرض وملزمة، وتم القفز على الواقع والاعتماد على شخصيات محدودة ومهزوزة في بلورة أهداف الحوار، مع الاعتبار لكافة الأطياف التي كانت حاضرة ولها باع في الأنظمة واللوائح والقوانين والسياسة والحقوق، إلا أن ثمة مخرج هو من كان يلوي ذراع النصوص والإشتراطات التي دفعت حزب المؤتمر الشعبي العام إلى إعلان تخوفه من المدخلات والنتائج، وكان عليه أن يمضي.
ساد الاعتقاد أن هناك معجزة من خلال تدوين المخرجات على الورق دون النظر لزحف المليشيا وتهجير (أبناء دماج) وابتلاع أراضي صعدة ومن بعدها عمران وصولا إلى صنعاء وازدواجية التعامل لدى مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة.
الدولة اليمنية الحديقة على الورق
سعت معظم الأطراف المناوئة لنظام صالح والتي كانت لا تزال تخشى عودته وتأثيراته حتى بعد استشهاده، إلى رفع شعارات الدولة المدنية الحديثة.
جاء التفريط بقضية “أبناء دماج” وحصارهم بشكل كامل 2013م في ذروة حكم الرئيس هادي، والاستجابة لدعوات التهجير كانت القشة التي كشفت عن ضعف السلطة، حين قال هادي لقيادات من التيار السلفي الأمر ليس بيدي والأمريكان سيأتون لضربكم بالطيران.
تمت عملية التهجير أمام أنظار كافة الأطراف والمكونات كما أعلنت عن مرحلة جديدة لم تدركها تلك الأطراف إلا بعد سيطرة أنصار الله الحوثيين على المشهد السياسي تماما.
كان الجميع بحاجة ماسة إلى تسوية سياسية تزيح العوائق الحقيقية لمشروع بناء دولة حديثة، بدلا من الدخول في صراع إثبات العضلات ومحاولة الاستقواء بالصوت الدولي الذي كان يقف إلى جانب شعارات “الربيع العربي” وليس تطلعات الناس وامنياتهم.
ولعل الاجتماعات التي توالت بحضور الأمم المتحدة والأطراف الإقليمية التي ظلت فاعلة في المشهد قد دفعت بشخوص السلطة الجدد إلى استشعار القوة وضرورة الوقوف بحزم مع كل إرث الرئيس السابق علي عبد الله صالح.
جاء التفريط بقضية “أبناء دماج” وحصارهم بشكل كامل 2013م في ذروة حكم الرئيس هادي، والاستجابة لدعوات التهجير كانت القشة التي كشفت عن ضعف السلطة.
جمال بن عمر
بدأت مهمة التغيير باستقدام مستشاراً للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون اليمن المغربي جمال بن عمر، وهو ابن الأمم المتحدة وأمينها العام المدلل، في الفترة (أبريل 2011 – أبريل 2015)،
خلال خمس سنوات كان بن عمر أحد أبرز الذين لعبوا دورا سلبيا في المشهد السياسي باعتباره وسيطًا بين أطراف الأزمة اليمنية الرئيسيين لتتوقف نفوذه مع تقاسم للسلطة على الورق عام 2015، لم يكن الرجل على دراية بما يجري أو بالأصح كانت أذنه تنصت لأصوات إقليمية ودولية ومحلية بعينها.
خلال فترته حدثت متغيرات مفصلية كانت مدخل للسقوط الذي حدث أواخر 2014 ودخول اليمن تحت البند السابع، بحيث أنه لم يترك ملف الأزمة اليمنية إلا وقد أنجز المهمة ورسم خارطة طريق لمليشيا الحوثي.
هادي رئيسا يصدر القرارات
من ضمن القرارات الشكلية الخطيرة التي اتخذها الرئيس هادي والتي وكانت جزء من تدمير واضعاف البنية التحتية للمؤسستين العسكرية والأمنية “الهيكلة”، كمطلب ثوري وليس وطني، بدأت الوحدات الأمنية تزدحم بالأفراد والقادة، من خلال تغيير التسميات والقادة واستيعاب أفراد جدد موالين وبصورة تندرج تحت مظلة الفساد التي قامت الاحتجاجات لمحاربته أصلا، وكان (الحرس الجمهوري) كمؤسسة في مرمى الاستهداف.
كان الأمر أشبه بالعودة لمربع الصفر، تم إعاقة مسار التنمية وبدا الحال كمن يبحث عن مسار جديد ربما يكون أقرب لأخونة الدولة بالتزامن مع ما يجري من أحداث في تونس والقاهرة والحبل على الجرار قبل أن تحدث الانتكاسة الكبرى مع دخول فصيل الحوثي.
كانت الأعوام 2011 وكذلك 2012 وأيضا 2013 وحتى 2014 أعوام صعبة جدا شهدت مخاض سياسي صعب تم تعقيده من خلال أطراف المعارضة والقيادات التي اعتقدت أن لها الفضل في الإطاحة وإزاحة الرئيس علي عبدالله صالح، دون دراية بأن الأمر ليس بتلك الصورة ولا يمكن تحقيق متغيرات ما لم يكن هناك توافق يذوب فيه كل ما لها علاقة بالماضي ومحاولة بناء الدولة بعيدا عن التداخل والفضول السياسي والتباين، ولا بد من الشفافية والحضور القوي بدافع إنهاء الأزمة وليس الحصول على حصة الاسد من غزالة لم تقوى على النهوض بعد ولادة عسيرة.
يتبع.. 2-2 الحوثيون يوسعون الفوضى بعد اكتمال الانقلاب.