منبر حر لكل اليمنيين

لا حل من دون أمن وكرامة للفلسطينيين

27

من السخرية الزعم بأن العملية العسكرية الأخيرة لن تحقق أي نتيجة مفيدة.

في مقابلته قبل أيام مع محطة “فوكس نيوز” الأميركية أظهر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان موقف بلاده من حل القضية الفلسطينية وارتباطها بالتطبيع مع إسرائيل، وكان واضحاً في كلماته الدقيقة بأن الأمر ليس مستعجلاً ولا متاحاً إلا إذا توافرت شروطه الموضوعية التي تحقق مصالح الفلسطينيين وتحفظ كرامتهم، وهو بذلك يعيد تأكيد سياسة السعودية منذ عهد الملك عبدالعزيز وكل ملوكها الذين جاؤوا بعده وعمودها الموقف من إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة والنمو بحدود معروفة آمنة وثابتة، وكان صريحاً بأن المفاوضات ما زالت جارية عبر الولايات المتحدة الأميركية.

ثم جاءت الأحداث التي وقعت خلال الأيام الماضية مفاجأة للعالم وتذكيراً دامياً بأن كل مسارات التطبيع وكل التقنيات التي تمتلكها إسرائيل وكل الدعم الغربي لها لن ولا يمكن أن يمنحها الأمان ما لم يقتنع شعبها بأن شعباً آخر استلبت أرضه يعيش إلى جواره في رقعة جغرافية واحدة، لكنهما لم يتمكنا من التوصل إلى صيغة تعايش إنساني يليق بكل فلسطيني اغتصبت إسرائيل أرضه وطردته منها ليعيش مشرداً في كل أصقاع الأرض.

خادع ومخادع منطق الذين يتساءلون عن النتائج التي يتوخاها من خططوا ونفذوا العمليات، وهؤلاء لا يضعون أي قيمة أخلاقية لما يعانيه الفلسطيني في غزة بالذات، وهم حين يوجهون اللوم والنقد إلى إنسان يعيش في عزلة عن العالم بسبب الحصار الذي فرضه أعداؤهم منذ عقود فإنهم بقصد وبسوء نية يمنحون إسرائيل صكوك الغفران على كل ما أقدمت عليه من عقاب جماعي ضد كل فلسطيني طيلة عقود ووضعتهم خلف جدران من الهوان والامتهان اليومي.

كيف يمكن التبرير إنسانياً لتقبل تلك الحياة البائسة التي يعيشها شقيق أو صديق أو حتى غريب؟ وهل من المعقول أخلاقياً أن نوجه الانتقاد إلى إنسان ولد وعاش ومن المتوقع أن يموت داخل مساحة مخنوقة بحراً وبراً وجواً؟ وكيف لم يفكر هؤلاء بأن اليأس يدفع الإنسان، أي إنسان، إلى الانفجار في وجه خصومه وأعدائه؟ بل من السخرية زعمهم بأن العملية العسكرية الأخيرة لن تحقق أي نتيجة مفيدة للفلسطينيين، وهم بهذا يتجاهلون حجم الجحيم الذي فرضته إسرائيل على قطاع غزة بالذات.

مفهوم ألا يتعاطف الكثيرون فكرياً، وأنا منهم، مع حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” بل وحتى مع حركة “فتح”، لكن ما ليس معقولاً هو التغافل عن السبب الحقيقي الذي أفرز هذه الكيانات، ولماذا لا يتساءل هؤلاء عن رفض إسرائيل منح الفلسطينيين حقوقهم في العيش الكريم وتمارس التمييز العنصري ضدهم وتقتطع أجزاء من أراضيهم كل يوم وتقتلع أشجار الزيتون التي يرتبط عمرها بتاريخ تلك الأرض وسكانها، وتعمد إلى تحويل حياة الفلسطيني إلى جحيم بفرض عراقيل على تحركهم وتنقلاتهم.

كانت العملية الأخيرة داخل الأراضي الفلسطينية معقدة في ترتيباتها ودقتها والأهم في التمكن من الحفاظ على سرية مراحل الإعداد وقدرة التكتم على تفاصيلها والتدريبات التي سبقتها، ولا يمكن بأي حال الاستخفاف بما جرى ولا التقليل من النتائج التي تحققت، وأنا هنا لا يمكن أن أكون مبتهجاً بقتل المدنيين، لكن لا يجب أيضاً أن نرى الأمر بغير عين المساواة في قيمة الإنسان بغض النظر عن جنسيته وديانته وانتمائه وهذا ما يغفله الذين يبررون مقتل الفلسطيني وتصنيفه إرهابياً لمجرد أنه يدافع عما أبقت له إسرائيل من كيلومترات معدودة لا يستطيع التحرك داخلها من دون عراقيل وتستمر في تدمير كل مقومات الحياة فيها وكل ما تنتجه تلك المناطق.

إن المنطقي والإنساني هو أن الفلسطيني ليس أقل قيمة إنسانية من أي مواطن في أي مكان على وجه الأرض، وهذا مبدأ لا يعتمده من يظنون أن الإسرائيلي أهم وأثمن وأجدر بالحياة، ولذلك فمن العدل والإنصاف فهم الدوافع التي ترفع منسوب الإحباط حد اليأس وتتملك كل من يعيش داخل سجن بلا نوافذ يرى من خلالها الضوء ولا تهوية يتنفس منها هواء نظيفاً ولا سقفاً يحميه مع أسرته ولا أمل لديه في الخروج من محنته إلا باستخدام العنف للتعبير عن القهر الذي يتملكه ومشاعر الكراهية التي تخنقه ليل نهار.

إن من يدعمون إسرائيل من دون قيد ولا شرط يرون أن حل المشكلة يكون بمطالبة المسجون احترام سجانيه الذين يمارسون بحرية أعلى درجات الظلم والقسوة متخلين عن كل معاني الإنسانية التي يطالبون المسجون بمراعاتها، وعوضاً عن ذلك عليهم الحديث عن العدل ومناشدة حاملي القيود الثقيلة التخفيف من بطشهم.

حتى يكون للعدالة معنى يدافع عنها الجميع من المهم أن يصبح تطبيقها مقيداً بالتزام الجميع بها بمعايير يتساوون أمامها وإلا فإن الطبيعي هو استمرار وديمومة دورات العنف التي لم تتوقف من حين بدأ العالم يرى أن الإسرائيلي له حقوق لا يستحقها الفلسطيني الذي لن يقتنع ولن يرضخ ولن يهدأ قبل نيله ما يستحقه من حياة كريمة وأمن واستقرار.

إن مشاهد القتل والدمار التي شاهدها العالم خلال الأيام الماضية تعيد قرع الأجراس بأن الحل الوحيد هو منح أصحاب الأرض الحقيقيين كامل حقوقهم المشروعة لإقامة دولتهم المستقلة ونظام حكمهم الذي يرتضونه وأن يمنحوا الحياة الكريمة التي ينشدها كل إنسان في كل أركان الأرض.

على إسرائيل أن تعي الدرس وأن تفهم أن كل القوة التي تمتلكها لن تحميها من غضب الذين اغتصبت أرضهم ويدافعون عما تركته لهم من أمتار قليلة يتكدسون داخلها، فالسلام الحقيقي هو أن يعيش الكل في أمن وأمان وكرامة ومساواة، وإلا فسيبقى الجميع أسرى للأحقاد والكراهية.

  • نقلا عن الاندبندنت.
تعليقات