منبر حر لكل اليمنيين

أسامينا*

28

“لسوء الحظ ليس لنا أن نختار أسماء الأشخاص الذين نلتقي بهم”، ولسوء الحظ نفسه، أنني قد أحاول.
قالت لي أمي أن جدي اختار لي اسمي، غير أنني لست “يمانا” كما قد أدعى. قبل سنوات ضربني الشؤم والجفاف، وصرت أكشط جلدي كالمصاب بالجرب، لذا تروقني الرواية الأخرى، التي لا أدري من حدثني بها، ولن أجد غضاضة في الاعتراف بزيفها، إذا استجد ما يثبت ذلك.
قال لي شخص من العائلة لم أعد أتذكره، كان أبوك يعمل لدى شركة عصائر من شركات هائل سعيد، عندما قدمت إلى الحياة. أرسل له الموظفون تهنئة في الجريدة الرسمية بصفته “أبو يمان” فكان ذلك، هذه أيضا لا احبها كثيرا، لذا ادخلت تعديلاتي على القصة لأوائم وجودي الهش باسمي العبيط.. لم يكن أبي يعمل لدى شركة هائل سعيد، وإلا كيف نفسر أن يقوم موظفين بعمل تهنئة لصديقهم باسم منتج لشركة أخرى منافسة. فاليماني شراب مانجو عرف حتى منتصف التسعينات، ضمن مجموعة تابعة لإخوان ثابت. أبي كان يعمل في شركة إخوان ثابت، وهذا الذي أمامكم يحمل اسما لم يكن طرفا في ملابساته.
أبدأ بالتساؤل، ما الذي يجعل إنسانا يحمل اسم “هشام”، بينما هو في الأصل -ولسبب مبهم- يليق به اسم “سامي”؟ مثلا، شخص يعمل في بقالة، مترعة بالفوضي بالضرورة، وتبيع أشياء بلا معنى، مثل مكائن الحلاقة القديمة ذات المرآة والمقص المطوي، التي لم يعد يستخدمهما أحد. هيئته متوسطة وسمين مثل برميل النبيذ، وشفتاه متشققتان، ويعتقد بنفسه أنه “هشام”. هل يمعن هذا الرجل النظر في المرآة كل صباح، ليرى أكذوبة الأسماء حين لا تتطابق مع السمات الجسدية للبشر.
أكون بجانب صديق لي، ننتظر مرور دراجة نارية لنذهب في مشوار، يمر “سعد” بدراجته فأناديه، فلا يلتفت، فاستغرب لماذا عليه ألا يلتفت، لديه شعر معنقد لم يمشط من يومين، وضجر، وتقاسيم وجهه غائرة، وهلع لتأخره عن شراء علاقية قات بجودة متوسطة (500) ريال، سيساوم عليها البائع طويلا، ويأخذها عنوة على إرادته. وقبل أن يأخذ سعد مكانه ودراجته تحت الجسر، لينتظر راكبا، قبل أن يخرج علاقية القات من فتحة قميصه الذي بلا أزرار، قبل كل شيء خرب من بشرته وعنقد عليه شعره، لقد عثر الضجر على هذا الشاب ليكون “سعدا”، لا إيهابا ولا جمالا. وما يثير دهشتي أن يلتفت صديقي إلى وجهي، وقد مضت أكثر من 5 سنوات على صداقتنا، وها هو يسألني:
– ما أدراك أن اسمه سعد؟
– إنه سعد، هل ترى كيف يمسك بمقبض دراجته، ويتلاعب بها؟ هل رأيت كيف مرق بجانبنا متحرشا، وكيف طارا طرفي شاله، ورفرفت ثنية مأزره، على الجانب الأيسر؟ هذا الرجل سينقلب عند الساعة التاسعة والربع مساء، لا لشيء، فقط لأنه “سعد” ويجب عليه أن يقوم بذلك، على الأقل نكاية بمن اسموه “إيهاب”.. ها هو يقول لهم، وبطريقة حسية وحاسمة: أيها الحمقى، ما الذي تريدون لأثبت أنني سعد؟ هل أرمي بنفسي تحت إطار ناقلة؟

هناك ما هو أسوء. عثرت على أناس، لا يدركون فداحة ما هم عليه. رأيت شخصا اسمه “نبراس”، وهو قمة في الظلام، أو على أقل تقدير هناك من أطفأ عليه القابس، ولم ينتبه بعد انه لم يعد يضيء. يخرج إلى الشوارع صباحا للتسكع ويتجنب الأزقة عند العودة إلى مخدعه مساء، موظف حكومي عاطل وكبقية البشر يتلمس الجدران في الظلام، ولا يصيب الالتماس الكهربائي رأسه الذي من المفترض أن يقوم مقام المصباح لحظة هطول المطر الغريز، ولا يتساءل لماذا هو نبراس؟ دعنا من نبراس هذا، لأننا سنجد كثير من فقهاء اللغة في صفه، خاصة الذين يعيشون في الكنايات والاستعارات، وينسون واقع أنهم مملون.
قابلت ذات مرة غريبا، فابتسمت له، وأشرت في محياه: هي! دبوان، كيف حالك، لكنه كان جاحدا كبقية البشر. زم ملامحه وحدق بي: هل تعرفني؟ لست “دبوانا”. كان ممتلئا ويلبس ثوبا على مقاسه، تماما مثل نصف كيس خيش ممتلىء بالنخالة، وله حدبة، إنه حلقة في سلسلة طويلة من “الدباونة” الذين أفطن لقراءة أرواحهم سريعا، وإنني في السنة الواحدة ألتقي من 10 إلى 15 “دبوانا”، وهم بالمناسبة من برج القوس، بدناء لكن أرواحهم خفيفة، وذريبي اللسان بدرجة حادة، ومع الأسف هناك من مستعد أن يفرط بكل هذا المجد، ليكون “نبيلا” أو “بليغا”، أو “أحمدا”، بالمناسبة يبدو أحمد أخف وقعا على صاحبه لو أنه كان “دبوانا”، حيث يمكن لأحمد أن يحل محل “دبوان” في مكان ما، إذ ليس هناك بد من تحاشي هذه النازلة الماحقة على المرء.
الأمر مربك جدا بالنسبة للمواليد الجدد، فعلى ما في حياتنا من التقاليد، جيل كامل من شباب المستقبل سيعي الجناية التي جناها عليهم أولياء أمورهم. لمحت ذات مرة طفلة تجري تجاه أبيها، في حديقة عامة، ما أجملها وكم يناسبها اسم “زرعة” الذي أعطيته إياها للتو، وهي تمرق بجانبي، أنا الجالس على كرسي حديدي في الساحة العامة. حدقت بسحنتها عن قرب، فراعني ذبول عينيها ولمعان بريق غريب، على وجهها الشاحب الجميل. سألت والدها ما اسمها، قال: جاسيكا. حينها، خمنت المرض التي تحمله هذه الطفلة والمستشفيات التي تزورها، والخطأ الطبي الذي قد يرتكبه الطبيب، إرتباكا لثقل هذا الاسم على تركيزه، وقد سأل ما اسم هذه الجميلة؟ فيرد والدها غير مكترث بصحة وسلامة الأمانة التي أودعها الله في حضنه: جاسيكا. يذعر الطبيب، لكن ليس من اختصاصه تغيير اسماء الناس، ولا أجسادهم، ولأن وقع الاسم مقارنة مع ما تحمله طفلة من براءة، مدمر.. صمت الطبيب، ورأى أي اصفرار أحدثه احتكاك الاسم بأنسجة الطفلة وعظامها، كم من الكالسيوم تحتاج هذه الطفلة ومن الكربوهيدرات لتعود إلى طبيعتها ك”زرعة”.
بحث الطبيب عن إمكانية أن يكون هناك اسما متسقا مع ما تحمله الطفلة من سمات. سأل والدها: ما الاسم الذي تدلعه بها؟ لكن الأب أحمق ويفتقر لروح المسؤولية، لقد درج على تحميل هذه المسكينة، اسما لا يمكن تصغيره. هكذا فكر الطبيب، لكن كيف له أن يفسر الأمر؟ هذه الأشياء لا تقال في أعراف هذا العالم المادي، وكل الحق مع العالم والمادة بالتأكيد، هل يقول الطبيب للأب مثلا: غير اسم ابنتك؟ أو نادي هذه الطفلة “زرعة”؟ ما الخنث الذي تتحدث به؟ هكذا يجب على أب الطفلة أن يرد، دون أن يطرف له جفن.
هناك أيضا، أشخاص لا يجب أن يحملوا أسماء دائمة، في أحد الصباحات الشتوية جلست على كرسي مطعم، كان الطباخ سئما في بوابة مطبخه، ويلقي على مصطبة حديدية ترتفع حتى عنقه بيدين برونزيتين ملتمعتين بالزيت، قلت في نفسي: أهلا “سليم” ما الذي تفكر به أيها التعيس؟ مرت دقيقة قبل أن تتوجه إليه امرأة لم تسعفن خفتها إعطائها الاسم الذي تستحقه، مع ذلك خاطبت هيئتها المقفية، ورحبت بها في نفسي: صباح الخير صباح..
قطعت صباح مساحة الصالة الرخامية بالاسم الذي أعطيتها، ونست أن هناك ندل، ومحاسبين، ومدت نقودا لهذا الطباخ المتأمل، لقد ألفيتها منشغلة بمراجعة الاسم الذي منحتها، ومنزعجة منه، إنها تحب أن يطلق عليها الجميع اسم رهف. يسألها الطباخ سليم: لمن هذه النقود؟ ترد عليه بارتباك: أوه، صح لقد نسيت. إنني فقط أريد نفرا من الفاصوليا البيضاء. يرشدها سليم إلى أين تذهب بنقودها، وكيف تنتظر طلبها ليتم.
يلبس الطباخ طاقية ورقية، ويعيد المريلة إلى صدره، فأرقيه إلى اسم “نجيب”، نعم.. ولو كانت المسكينة صباح، (هيئتها عندما التفت وتوجهت لي تقول انها “سعاد” لا صباح ولا رهف) لو أن سعاد توجهت إليه وهو على هذا الشكل الرسمي، لخاطبته دون الشعور بأي حرج أو أسى: نجيب، أريد نفرا من الفاصوليا لو سمحت. سعاد أيضا تحولت إلى فتاة أخرى وهو تنقد المحاسب ماله، وتنتظر على كرسي بلاستيكي بجانب البوابة، ليتم طلبها. لوح لها نادل:
– سعاد، تريدين طلبك مع البسباس؟
ردت عليه وهى تحاول الوقوف:
– لا، قليلا.
فكرت “سعاد”، هل ناداني ب”سعاد”، ولم تطل الاستغراق في الأمر، لأنها خمنت أن النادل قد يكون شبهها بامرأة أخرى. ومع ما في الأمر من سوء تقدير، أعجبها هذا الاسم، وصارت تتمثله في كل حساباتها المستعارة على الانترنت، والتواصل مع الأرقام التي لا تبارح حياتها، وحياة كل امرأة على شاكلتها.
عند ربط أسماء الناس بخياراتهم في الحياة ينحو الأمر مسارا أكثر تعقيدا. في السكن الجامعي وقعت صدفة رفقة زميل غريب الأطوار ولا يفخر بشيء قدر فخره باسمه: نبيه.
أيام من معرفتي به، عرفت كيف أن البشر دائما ما يضلون طريقهم.
شاب مولع بالهواتف النقالة مع أنني لم أره يوما يتلقى مكالمة واحدة.. مولع بالانترنت ويقضي أكثر من 12 ساعة فيه، ولاتجد له نشاطا واحدا على صفحات الويب، يعود عند الساعة الثانية من مقاهي المدينة، وهو يتلوي من وجع في معدته، ليجبر الجميع على النهوض. وعندما يستعصي عليه إحداث بلبلة يخشخش في متاعه المحمول داخل أكياس بلاستيكية من تلك التي لها خشخشة مؤذية، وعندما يقرر النوم باكرا، يشغل منبهات هواتفه الأربعة دفعة واحدة. تنهض هواتفه كل سكان الحي، بينما هو يظل نائما. في نهاية المطاف، غضب نزلاء السكن لأنفسهم، وقرروا عقد لقاء للتشاور. اعتقد الجميع أنهم سينتهون لطرد هذا الشخص من حياتهم، فما الذي دار؟
قرر المجتمعون، الحجر الكامل على هذا الشخص من استخدام اسمه غطاء لسلوكياته، وانتهوا لتغيير اسمه من “نبيه” إلى “نعيب”. وهكذا سمح لنعيب أن يعيش كما قد يحب، للمنبهات أن تعمل، وللضغائن كي تتلاشى، وها هو شخصية مرموقة بمنصب حكومي، ونفوذ حزبي.. له مديرة مكتب، وهاتفا واحدا، وزوجتين، واسما أخف كارثية على كوكبه.
* من مجموعة “مزاج الجائع”

تعليقات