قراءة في “كبرتُ كثيراً يا أبي”
يطرح ديوان عبدالمجيد التركي (كبرت كثيراً يا أبي) عدة إشكالات أربكت المتلقي وأثارت إعجابه في ذات الوقت، إن الكشف عن شعرية الديوان مسألة صعبة وتحتاج إلى دراسة تفصيلية موسعة، بالإضافة إلى أن دراسة الشعرية أصبحت متجاوَزة لكثرة ما شهدته من دراسات، فقد كانت محور اهتمام الدرس الجامعي في تسعينيات القرن الماضي، وترتبط بهذه الإشكالية مسألة أخرى وهي سردية الشعر، وهي السمة الأبرز في هذا الديوان، وهي مسألة دقيقة تحتاج إلى حذر شديد من الشاعر حتى لا تنقلب سردية الشعر إلى شعرية السرد، كيف تسرد مواقف وتجارب معيَّنة وتظل ممسكاً بخيط الشعر، كيف تقنع القارئ أن ما يقرأه شعر بطريقة سردية وليس سرد بطريقة شعرية.
“لم أقرأ ألفية ابن مالك
ولم أحاول قراءة المعلقات السبع،
كان مدرسُ العربية يسمعنا كلَّ الأبيات التي تحتوي على الجناس،
أكره الفذلكة اللغوية وقصائد الوعظ،
وقصيدة “يا كاتب الخط إن الخط أربعةٌ”..
العم سعيد العدني
بوَّاب مدرسة “عمر المختار”
كان يشتمُ الباب المليء بالحِكَم
والأبيات التي تمجد العلم والخط..
حتى جدران الحمامات
مليئة بالذكريات وأرقام التلفونات
وأسماء بعض الرؤساء”.
(الديوان، ص88).
المقطع من (لم أقرأ ألفية ابن مالك) إلى (يا كاتب الخط إن الخط أربعةٌ) مقطع سردي خالٍ من الشعر رغم ما يحمله من دلالات، لكن هذا السرد يتوقف بشعرية ما يليه من جُمل، يأخذك النص على حين غرة، يستدرجك بالنثر حتى منتصف الطريق ثم يسكب شعريته:
“بوَّاب مدرسة “عمر المختار”
كان يشتمُ الباب المليء بالحِكَم
والأبيات التي تمجد العلم والخط..
حتى جدران الحمامات
مليئة بالذكريات وأرقام التلفونات
وأسماء بعض الرؤساء”.
يظهر بواب مدرسة عمر المختار بطلاً شعرياً، وفي اسم عمر المختار دلالة لا تخفى على حاذق، حتى جملة “بوَّاب مدرسة عمر المختار” كان يمكن أن يكون نثرياً، لولا ما تبعه من جُمل، “كان يشتم الباب المليء بالحِكَم” سخرية وتمرُّد الصوت المتحدث في بداية النص يعزِّزها تمرُّد هذا الحارس الذي يشتم الباب المليء بالحكم، فالشعرية تكمن في كسر نمط السرد بـ (المليء بالحكم) والانتقال مباشرة إلى الحمامات، وهي نقلة ذكية من العلم والحِكم وتمجيد الخط إلى الحمامات، وهو انتقاد مرير للتعاليم المدرسية التي لا توصل إلا إلى الحمام، المكان اللائق بها، وفي الحمامات تجد أجمل مما تجده في فصول المدرسة وجدرانها (الذكريات وأرقام التلفونات)، أي مكان علم هذا الذي تنحصر ذكرياته الجميلة في الحمامات، وتكتمل شعرية النص بجملة (وأسماء بعض الرؤساء)، حيث يحرص الحكام على نقش أسمائهم على العملة المعدنية والورقية وواجهات صحفهم الرسمية وفي صدر نشرات الأخبار، ويأتي التلاميذ يكتبون أسماءهم على جدران الحمامات، حيث يليق بهم أن يكونوا، ولأن الحمام هو المكان الوحيد الذي تستطيع أن تقول فيه رأيك بحرية. هكذا تكسر القصيدة سردية النثر بشعرية تخلقها المفارقة والانحراف الأسلوبي على مستوى المفردات والجمل واستخدامها في سياقات لا يقرها النثر ولا يألفها القارئ.
السمة الأخرى التي يتميز بها الديوان هي تشعير المفردات المألوفة، بنقلها من سياقها المألوف والعادي وجعلها مادة شعرية، في استثمار جديد للأسماء والمفردات، وإعادة الاعتبار للشعرية التي ينبغي لها أن تتخلص من البعد الرومانسي، وهو ما فعله عبدالوهاب البياتي في قصيدة “سوق القرية”:
“الشمس، والحُمُرُ الهزيلة، والذباب
وحذاء جنديٍّ قديم
يتداول الأيدي، وفلاح يحدِّقُ في الفراغ:
في مطلع العام الجديد
يداي تمتلئان حتما بالنقود
وسأشتري هذا الحذاء
وصياح ديكٍ فرَّ من قفص، وقديس صغيرْ”.
فقد جعل البياتي الذباب والحذاء القديم والحُمُرُ الهزيلة مفردات لا تقل شعرية عن غيرها من المفردات، إذ إن الشعرية تتولد من السياق الذي توضع فيه المفردة لا من المفردة نفسها.
وفي (كبرت كثيراً يا أبي) تجد عاقل الحارة، وصاحب الوايت، وبائع البترول في السوق السوداء، وعلي القرماني، وبائعة البطاط، والمعتقدات الشعبية:
“تحكُّني يدي فأبتسم
وانتظر رزمةً كبيرةً من المال
تحكُّني رجلي
فأوقن أن هناك من يغتابني الآن”.
(الديوان، ص102).
من يبحث في الشعر عن الصور البلاغية لن يجد شيئاً منها في هذا المقطع وفي كثير من نصوص الديوان، فالشعر لم يعد تشبيهات واستعارات كما كان عند الشاعر والناقد القديم، لكن الشعرية المعاصرة لها أشكال مختلفة، لعل أبرزها ما أسماه عبدالقاهر الجرجاني بالنظم، وفي المقطع السابق تكمن الشعرية في تمثُّل تلك المعتقدات الشعبية وسردها ببراءة شخص يحاول أن يقرأ العالم على طريقته، فينظر إلى الأحداث البسيطة أو “التافهة” باعتبارها مؤشرات غيبية تحمل رسائلَ وأخباراً عن المستقبل.
تُسرد معظم نصوص الديوان بضمير المتكلم ليتسق مع طابع السرد الذاتي، فالديوان منذ عنوانه خطاب شخصي موجَّه إلى الأب (يا أبي)، وهناك نصوص قليلة يتحول النَّاص إلى مخاطَب بدلاً من مخاطِب:
“الأمر لا علاقة له بالعصب السابع..
وجهك ينكمشُ كلما وقفتَ أمام مرآة،
وصوتك بطيء كأشرطة الكاسيت المعطوبة..
المرايا ليست مغشوشة،
والأصوات التي تسمعها
هي أعوام لأشياء تحدث
بداخل فمك المليء باللزوجة”.
(الديوان، ص78).
حين يصبح المرء غريباً عن ذاته، لا يستطيع التعرف على وجهه في المرآة، ولم يعد صوته هو صوته المعتاد، فكان الأبلغ أن يحوِّله النص إلى ضمير المخاطب في مواساة حزينة من الذات لذلتها، هكذا نجد أنفسنا أمام ذاتين، ذات غريبة عن ذاتها، وأخرى تشرح لنا الأمر.
هذه مجرد مقالة سريعة حاولت أن نقول شيئاً عن شعرية هذا الديوان، ويبقى الديوان مادة خام قابل لقراءات أخرى تستكشف شعريته وأسلوبيته المتميزة، كما أن المقالات التي كتبت عنه تحتاج إلى النقد والمراجعة ضمن دراسة “التلقيات”.