منبر حر لكل اليمنيين

مات مغلوب

30

“لا حول ولا قوة إلا بالله.. الحاج غالب مات مغلوب.. الله يلحقنا بعده من الصالحين”. هكذا تحدث جارنا العم قاسم بصوت جهوري، وهو يمر من زقاق بيتنا بأعوامه التسعين.

كنت في السابعة، حينها، وأنا أجلس في النافذة وأخرج قدميّ من الشبك الحديدي لأشعر بحرية قدميَّ خارج الغرفة، وكان النساء يتوافدن إلى منزل الحاج غالب لتعزية زوجته وأطفاله، وكل امرأة تحمل بعض الخبز والطعام.
بقيت محبوساً في الغرفة حتى تعود أمي من بيت الحاج غالب، لأنها ترى أن ذهاب الأطفال إلى بيت الموت أمر غير جيد، وكانت بعض النساء تخفي مولودها عن زوجها إن كان عائداً من المقبرة، وفي يديه تراب عالق من أثر الدفن.

مر الرجال من تحت بيتنا وأنا أتأملهم من النافذة وهم يحملون الحاج غالب على قعادة خشبية تشبه السرير، كان هؤلاء الرجال يقولون لبعضهم: لا تسرعوا بالجنازة.
لم يعد اسمه الحاج غالب، فقد منحوه اسماً جديداً هو: “الجنازة”.
مؤلم أن يفقد الإنسان اسمه وصفته من أول دقيقة يتوقف فيها قلبه عن النبض، وكنت أستغرب لماذا يسرعون به وكأنه لا يجب بقاؤه بين أطفاله وهو على هذه الحالة، وحين كبرت سألت أبي: لماذا يسرعون بالميت، قال: كرامة الميت دفنه.

في “شهارة” الأيام نسخ متشابهة كلها طبق الأصل.
الناس في القرى منضبطون في مواعيد نومهم واستيقاظهم ووجباتهم، وطريقة موتهم.. كلهم يكتبون وصاياهم، ويحتفظون بأكفانهم في خزانة الملابس.
سألت أبي ذات يوم: لماذا يحتفظ بالكفن؟ قال لي: كما نحرص على ثيابنا في الدنيا لا بد أن نجهز ثوب الآخرة.
كان بعضهم يخاف أن يموت في يوم عيد أو إجازة، أو في منتصف الليل، لأن المحلات التي تبيع الأقمشة ستكون مقفلة، ولن يستطيعوا شراء الكفن.. لذلك كانوا يشترونه ويضعونه في خزانة الملابس تحسباً لأي طارئ.

ذات يوم غرق طفل في بركة مليئة بالطحالب. فقيه القرية أخبر والديه بأن الواجب دفنه بملابسه، لأنه شهيد. فرح والداه بتلك الفتوى لأنهم لم يكونوا يمتلكون ثمن الكفن. بينما أشفقتُ عليه أنه سيدفن بملابس مبلولة في مقبرة مطلة على الحيد تعبر منها الريح طيلة الوقت.

في “شهارة” نسمي الكفن (مريكني)، لم أكن أعلم حينها أن هذه التسمية تعني (أمريكاني)، لاشتقاقها من اسم بلد المنشأ الذي نبت فيه القطن، وقبله دودة القز، والمغازل والمحالج التي حولت ذلك القطن إلى كفن خشن لا يوفر للموتى أدنى شعور بالراحة أثناء ارتدائه.

كأطفال، كنا نفرح بقراءة سورة ياسين في الجامع. كان أقارب الميت- بين المغرب والعشاء- يملأون أوعية نحاسية بماء الورد ويرشونه فوق رؤوسنا ونحن في حلقة كبيرة نقرأ ياسين بصوت جماعي ونهديها إلى روح الميت الذي لا يصل إليه ماء الورد، فأعود إلى أمي مبلولاُ بهذا الماء الذي كان يستخدمه الناس لدهن أجسام أطفالهم لعلاج الحصبة والجدري. أما الرجال فكانوا يدهنون جباههم وسجائرهم ب”أبو فاس” و”مكافح الرياح” كعلاج لكل أمراض الشتاء الشائعة. وأما النساء فلم نسمع عن استخدامهن شيئا، فقد كنت أظن أن الأمهات معصومات من المرض، لأنهن يسهرن على كل المرضى ولا يحتجن لأحد ليسهر عليهن، لأن المرض لا يليق بهن.

جارتنا “محصنة” ارسلت مع ولدها المسافر مائة ريال، في الثمانينيات، ليشتري لها كفناً. كأنها تريد أن تتباهى أمام جاراتها بأنه مجلوب من صنعاء، وليس مأخوذا من لفة القماش القديمة التي يضعها الحاج غالب خلف تخشيبة البضاعة باعتبارها من المبيعات النادرة.
أما عمتي مريم فقد كانت تتباهى بأنها اشترت كفنها من مكة، بمائة ريال سعودي، وغسلته بماء زمزم.

كان الموت نادراً، وكلما مات شخص يكون أهل القرية قد نسوا عدد تكبيرات صلاة الجنازة. كان الموت طبيعيا أيضا ومقتصرا على كبار السن، أو المواليد القادمين من زواج الأقارب، أو أمراض الطفولة الستة القاتلة التي كانوا يتجاوزونها دون تطعيم. فقد كان (ماء غريب) دواءً لكل داء في أذهان الأمهات.

لم يفكر الحاج غالب بقص كفن له من لفة القماش القديمة التي يضعها خلف تخشيبة البضاعة، باعتبارها من المبيعات النادرة، فقد باعها كلها أيام جائحة الجدري. فتصدق عليه جارنا العم قاسم بكفنه المضمخ بعطر “جنة النعيم”. وكأن العم قاسم مطمئن إلى أن الموت سيمنحه عشر سنوات أخرى ليكمل القرن، لاعتقاده أن التصدق بالكفن يطيل العمر.

تعليقات