كل “حاضر” يُنتج “الماضي” الذي يحتاجه
العلاقة النموذجية بين الإنسان الفرد الناضج العاقل وماضيه لا تختلف عن العلاقة النموذجية التي من المفترض أن تقوم بين شعب ناضج، عاقل، وماضيه.
يتميز الحيوان بافتقاده لخاصية الاهتمام الواعي بماضيه ومستقبله، وكذلك إنسان الطبيعة الأولى، لا إنسان التاريخ والحضارة الذي نجح في أن يخترق بعقله أسوار جنة الأنعام والعجماوات ويشق طريقه بعيداً عنها، الطريق الذي يُدعَى التاريخ.
مع ذلك، فما يهمني في كتب التاريخ ليس ما تحويه من رصد وتسجيل لحوادث الماضي ومراحله، أو تراجم للرجال ذوي الشهرة والصيت، وإنما تلك التفسيرات الشيقة والمعاني الجديدة والفريدة التي يخرج بها الباحث والمؤرخ الفيلسوف من تأملاته في أخبار الماضي ومراحله ورجاله، فيقدِّمها في خطاب معرفي منظم يربط فيه الماضي بالحاضر لخدمة غرض وطني وأخلاقي وإنساني شريف.
في هذا الصدد، يخطر ببالي ما كتبه مارسيل غوشيه -مؤرخ وعالم اجتماع فرنسي- عن “أنّ العلاقة العملية مع المستقبل هي التي تغير العلاقة النظرية مع الماضي”، وأن “قدرة جديدة على التفكير في المستقبل، تختبىء وراء القدرة على الرجوع للماضي”.
ما “التراث” سوى اسم نطلقه على مخزن مليء بأشياء كثيرة بالية من مخلَّفات أزمنة مضت.
مهمة الباحث والمؤرخ تتلخص في رفع الغطاء عن هذا المخزن، واستطلاع محتوياته وفحصها، بحسّ نقدي رفيع، وإعادة القراءة فيها وتصنيفها وتبويبها، وفرز ما لم يعد نافعاً لأن غرضه انقضى بانقضاء سببه وزمنه، واستخلاص ما لا يزال نافعاً لاتصال سببه رغم انقطاع زمنه.
وهكذا.. فمنها ما يذهب إلى الإهمال والنسيان، ومنها ما يكون حُكمه في الكُتب وفي الفكر حُكم القطع الأثرية في المتاحف، ومنها ما يبقى للتذوق والفُرجة ومتعة النظر، ومنها ما يعاد استلهامه والانتفاع به بعد تأهيله لكي يستجيب لغايات جديدة موافقة لروح العصر.
تماماً ما ينطبق على التراث ينطبق على التاريخ، فهو مستودع كبير يضم نقائض من كل نوع: الحسَن منها والقبيح، أخبار المفاخر والمخازي، دلائل العظمة والانحطاط.
فإذا نقبت ستجد ما ينصرك، وسيجد غيرك ما ينصرهم عليك.
أبوابه مشرعة للجميع، لا فرق بين صاحب العقل الراجح والخُلق النبيل والغاية الكريمة، وصاحب العقل السقيم والخُلق الفاسد والغاية الدنيئة.
لا أتذكر أين قرأت هذه المقولة: كل “حاضر” ينتج “التاريخ” الذي يحتاجه، [وقد نستبدل لفظ التاريخ بـ لفظ الماضي].
أتذكر أنها استوقفتني طويلاً وقد فهمتها على هذا النحو: الحاضر هنا بمعنى أبناء الحاضر، وهم إما حكاماً أو محكومين، سادة أو عبيدا،
سلطة أو معارضة، غالبين أو مغلوبين.
السلطة المتغلبة تنتج من الماضي ما تحتاجه من: روايات ورموز وتأويلات ونماذج قديمة وأبطال وأفكار ومعاني.
والمعارضة المغلوبة، المتحفزة، الطامحة، من جانبها تنتج من الماضي ما تحتاجه، أي كل ما يفيد قضيتها في الاتجاه المضاد: من روايات ورموز وتأويلات ونماذج وأبطال وأفكار ومعاني.
الاحتياج قد يكون حقيقياً أو وهمياً، وقد تكون عواقب الاختيارات طيبة أو وخيمة.
فعملية صناعة التاريخ في مثل هذه الحالة تخضع لتقدير سياسي وعملي متعلق بالوجود ومقتضياته الأدبية في الحاضر.
تأخذ العملية أبعاداً أكثر عمقاً في لحظات الفوضى والحروب الأهلية عندما تتنافس قوتين تأسيسيتين متناقضتين أو أكثر.
وفي ظروف كالتي تمر بها اليمن اليوم، تسعدني الروايات والتعليلات والقراءات التي يتم صنعها حول الماضي ولا يؤدي استخدامها إلى تجزئة الوطن على مستوى العاطفة والفكر والعمل.
يكمن هم وطني توحيدي خلف الامتعاض الذي تثيره في نفسي التعليلات التاريخية ذات الطابع الأحادي، تلك التي تركز على عامل واحد تُرجع كل شيء إليه: إما العامل المناطقي مثلاً أو العرقي أو الجهوي أو الديني.
ليس امتعاضاً شخصياً على الإطلاق، إذ لو انتهى أملي في أن اليمن سيعود بلداً واحداً، فلن يكون لديّ حينها أدنى سبب لمناقشة هذه الرواية أو الاختلاف مع تلك العقيدة، ولن أكترث لما يمكن أن يظنّه أحد عن مقاصدي أو أظنه أنا عن مقاصده.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك