منبر حر لكل اليمنيين

بين الماضي والحاضر

12

القراءة عن الماضي تعيد ذكريات كثيرة، لكن ذكرى الماضي وحدها لن تؤثر في كائن لم يعش الحقبة الزمنية بأدق تفاصيلها، ولم يخض التجارب بكل مؤثراتها، ولم يكن جزءاً منها، لذا وجود البشر بين ازمنة متعددة، متفاوتة التأثير قد يدخلهم في دوامات، لأن لكل زمن رؤية معينة للحياة، وهذا يجعلنا نتساءل ماذا يحدث الآن وما الذي حدث قديما؟ ما الذي حضر وما الذي غاب؟ ولماذا؟

العودة فقط إلى حقبة ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم قبل الهجوم المعلوماتي والثورة الهائلة، قد يضع آلاف التساؤلات في عقول الناشئة والشباب، الذين وجدوا أنفسهم قد حشروا داخل دوامة لا يعرفون ماهيتها، ولا كيف جاءت، و أغلبهم يعتقد أن هذا الوقع لم يكن له مؤثرات أوصلته إلى ما هو عليه اليوم.

قبل مدة سألت طفل لم يتجاوز العاشرة، هل يعرف ماهي المسجلة أو جهاز التسجيل؟ لم يكن يعلم معنى جهاز تسجيل أو حتى شريط كاسيت، مع أننا كجيل معاصر عشنا سنوات طويلة نسمع الأخبار والمعلومات ونتابع العالم من ذلك الجهاز العجيب، الذي لم يعد له تأثير ولا وجود حاليا، وكذلك لو سألت آخر عن الملابس والازياء والأفكار قبل عشرين عام أو حتى قبل عشر أعوم، لن يكون لديه رد ولا معرفة عن تلك الفترة من الحياة، وربما لو ذهب إلى قرية قد يشعر بالانبهار وهو يرى البقرة تلد و الدجاجة تبيض والحمار ينهق ودخان مواقد الحطب يتصاعد عند الفجر من كل منزل أو ربما لتفاجئ بأن البشر تعيش بشكل طبيعي بدون كهرباء ولا تمتلك اجهزة انترنت رغم أنها قد وصلت إلى كل مكان تقريبا، إن غربة التواصل بين الأجيال من خلق هذا المستوى المتباعد بين الأجيال ..حتى لو سألت أحدهم في ما يخص الأجهزة أو المشروبات أو الموضة أو الملابس أو التعليم أو التوجه الديني قديما ربما شعر بأن السؤال غريب ومضحك وعجيب! رغم أنها كانت ومازالت من الأمور المؤثرة في حياة البشر ومستوى الوعي والتفكير والانتماء، لأنها تسببت بآسر جيل كامل عاش تحت رحمة توجهات وأفكار متطرفة لفترة طويلة، جيل دخل إلى الآلفية الجديدة بكل ما فيها من ثورة معرفية وحضارية ورغم ذلك ما يزال غير قادر على استيعاب التغيير المعلوماتي والعملي والحضاري والانزياح البشري، وكيف يخرج من معضلة بات أسيرًا لها وأصبحت عادة متجذرة في سلوكه لا يمكن تجاوزها.

إذا تحدثنا فقط عن الملابس الرجالية والنسائية وتغيرها من الستينات والسبعينات مرورًا بعصر ما سمي “الصحوة الدينية” في بداية الثمانينيات، وتحول النظرة العامة من القومية والاشتراكية إلى التوجه الديني من ثم الحزبية في بداية التسعينيات في اليمن وكيف فرض تلك التوجهات نمط معين على المجتمعات العربية كلها – بشكل عام – وعلى اليمن بشكل خاص، فتغيرت الانتماءات نحو توجهات بعينها، قيدت المجتمعات بقيود كثيرة، منها عدم قدرته التجاوز والخروج من آسر تلك الحقبة الزمنية حتى الآن، وبات استلابه الحالي جزء من تأثير فرض عليه وما يزال يفرض عليه نمط حياة معين.
لو يعود القارئ بالزمن إلى قبل ثلاثين أو أربعين سنة فقط سوف يرى حياة مختلفة كليا، تعليم منتظم، ودور سينما، ومسارح والكثير من المظاهر الحضارية التي فرضت نفسها كانزياح حضاري اجباري بعد الثورات العربية، ونرى صور الجامعات والمدارس والحياة العامة كيف كانت تنظر للعملية التعليمية كمنجز حضاري لتطوير البشر ثم كيف هي في فترة الثمانينات والتسعينات بعد انتكاسها ودخولها في مرحلة التأثبر الديني وسلطة النظام الديني الذي لم يترك مجال إلا ودس رأسه فيه، ضايق دور السينما وعمد إلى فصل النظام التعليمي وهيكلته وفق رؤية خاصة، وحارب الفرق الغنائية والمسرحية حتى اختفت نهائيا، وأيضا قاد المجتمع إلى نمط معين من الملابس النسائية والرجالية، ومع أن أغلب هذه الأمور كانت شخصية إلا أن التوجهات قيدتها برؤية مجتمعية عامة، وكان على الجميع أن ينصاع لتلك الرؤى لذا انتشرت الجلابيات السوداء للنساء والثياب القصيرة للرجال نمط جديد فرض رؤية وأسلوب حياة مختلف، و بيئة خاصة تحت رحمة رؤى دينية فرضت تلك التوجهات وقيدتها بنصوص دينية، أغلبها بوجه نظر القارئ حاليا قد يثير الضحك والسخرية فتوى لتحريم الأكل بالملعقة، وفتوى لتحريم السجائر، وفتوى لتحريم الغناء والرقص والمعازف، حتى أن بعض الفتاوى وصلت لتحريم بعض المأكولات كالخيار والجزر والكثير من الأشياء السطحية التي قد لا يصدق القارئ الآن أنها كانت فتاوى تصدر بها رسائل وتعمم وتنشر وتطلق من على منابر الوعظ والارشاد وربما يحبس من يخالفها أو يتم التشهير به أو معاقبته، والحديث يطول عن الماضي وعن أسباب تخلف المجتمع وتغربه وتيهه في ظل هذه الثورة المعلوماتية..

إن تطويع البشر على أنمطة معينة تجعلهم غير قادرين على تجاوزها مع الوقت، وتجعلهم بحاجة إلى سنوات طويلة من أجل الخروج من أسرها، وربما اسوأ ما تم السيطرة عليه وما يزال العقل البشري، الذي لم يستطع تجاوز الوصايا عليه من قبل الأنظمة وفق التعليم النظامي وما يزال حتى الآن سهل الاغتصاب من أي جهة قادرة على بسط نفوذها بالقوة..

  • من صفحته في فيس بوك.
تعليقات