الطيران على الطريقة اليمنية!
وعمري عشر سنوات تقريبا عرفت من أمي في ليلة باردة بينما كنت أستعد للنوم؛ أنها شلت اسمي من مقطع في أغنية لأبو بكر سالم يقول فيه “وفكري فوق طاير”.
وحلمت في المنام ليلتها بأني أطير في سماء ماطرة؛ وقمت من نومي في الصبح وصوت أبوبكر سالم يوطل داخل أذني بنفس الأغنية وبدأت أعيش معه أحلام الطيران من بدري.
طرت في الأحلام كثيرا من بعد ذلك..
وكنت أستيقظ من كل حلم وأنا خااااااور أطير وأحلق في السماء ولكن مش داري كيف أفعل.
ولما شفت الطيارة تحلق فوق سقف بيتنا لأول مرة؛ حبيتها بقوة وأصبح جسمها عندي أول عملاق مدهش أشوفه يطير في السماء قدام عيوني وتمنيت لحظتها لو أنني أستطيع الإمساك بها في حلم على الطاير.
ولما سمعت لأول مرة عن عباس بن فرناس؛ كنت حينها لا أزال فتى مستمرا في أحلام الطيران وشعرت حينذاك بأني أعرفه من زمان وأن بيني وبينه شخصيا علاقة طيران في حلم واحد مشترك.
بينما كنت عامل لنفسي هاذيك الأيام زوة صغيرة في درجان سقف بيت جدي أشبه بقمرة قيادة تطل إلى الحارة من وراء طاقة زجاجية طويلة ممدودة عرض الجدار من الطرف إلى الطرف.
وكل يوم ألعب فيها بروح طيار مش داري أيحين شيقلع ولا ايحين شيطير في الجو.
وكان أي واحد يسالني:
– أيش تشتي تقع لما تكبر؟
أرد عليه على طول:
– أشتي اقع طيار.
ولم يكن هناك ما يسعدني أكثر من أن أسمع الجيران في الحارة يقولوا إن الحجاج سايرين مكه؛ أو يقولوا: هيا نسير نودعهم إلى المطار؛ أو هيا نسير نستقبلهم بعد عودتهم من الحج.
أطير من الفرح لحظتها وأكون أول المودعين وأول المستقبلين؛ وطول ما أنا واقف في سقف مطار تعز؛ أجلس مقبع برأسي إلى السماء؛ اشوف الطيارة تقلع وتهبط وأنا أحلم متى أكمل الثانوية العامة وأسير ادرس طيران.
توقف حلمي في دراسة الطيران على أية حال لما دخلت ادرس “قسم أدبي” قلت ماليش في الفيزياء ولا الكيمياء ولا الرياضيات ولا الهندسة الفضائية.
وهبطت أضطراريا من بعد ذلك إلى طموح آخر قريب جدا من حلم التحليق والطيران وتمنيت لو أنني أستطيع أن أتوظف في المطار؛ أي حاجة؛ حتى ولو اشتغل مودع يبكي على المسافرين اللي مافيش معاهم حد يودعهم في المطار.
ولكن مع الأسف حتى وظيفة البكاء في وداع واستقبال المسافرين كانت تشتي لها واسطة وظهر؛ وأنا كان ظهري حينها “عباس بن فرناس” اللي نكع من السماء بجناحين من ريش النعام في أول محاولة للطيران.
وبمرور الوقت تقلص حلم الطيران عندي وصرت أتمنى لو أنني أستطيع أن أركب طيارة وبس؛ وأن أعيش متعة التحليق في الجو كمسافر من جيز الناس المحلقين في السماء.
وكنت في الجامعة عموما عندما تحقق لي ذلك وحظيت بأول رحلة طيران وما قدرت ارقد من الفرح يومها.
وكان الطريق عندي من سكن الطلبة في صنعاء إلى المطار لكأنه الطريق من القاع إلى القمة.
يومها طبعا حبيت المطار وحبيت شكل التذاكر وحبيت كراسي انتظار المسافرين في صالات المغادرة والوصول.
وحبيت حمالي حقائب المسافرين وموظفي الجوازات وباص نقل الركاب من صالة المغادرة إلى مدرج الطائرات وسط المطار.
وحبيت علامات قياس الريح وصوت قرقعة اقدام الركاب وهم يصعدون سلم الطائرة.
وحبيت ملابس الطيارين وأشكالهم واناقتهم؛وحبيت مهابة كابتن الطيارة بلباسه الأنيق.
وحبيت جمال وأناقة المضيفات وتسريحات شعورهن ورائحتهن وأحمر شفايفهن.
وتمنيت لو أن أجلس في قمرة القيادة لمشاهدة العالم الخارجي من مقعد الطيار تماما مثلما كنت أشاهده زمان من وراء قمرة قيادة طيارة الأحلام في سقف بيت جدي.
وتمنيت لو أستطيع أن أخذ هاتف الطيارة في يدي وأقول للركاب:
– أهلاً بكم على متن طيران “اليمنية”
– سنحلق الآن على ارتفاع 11 ألف قدم
– اربطوا الأحزمة وانتبهوا تنكعوا
وحبيت مقاعد الطيارة وحبيت كل هاذيك المشاعر الحلوة اللي عشتها مباشرة في لحظات الاقلاع والهبوط وأصبح حلم الطيران عندي؛ كمسافر فقط؛ رفيقي الدائم كلما شفت ناس رايحين إلى المطار أو شفتهم راجعين منه أو ماشيين من جنب مكتب سفريات وسياحة؛ وأتمنى في كل مرة لو أني طاير معهم في الجو إلى أي وجهة يذهبون إليها تحت أي سماء؛ مش مشكلة؛ المهم أطير وأبيض وجه عباس بن فرناس.
غير أن الطيران على أصوله؛ وفق التقاليد اليمنية الشهيرة كان هو حظي فيما بعد، ووجدتني أطير من كل شيء دون أي حساب لأحلام الفتى الطائر.
وتسألوني كيف؟
وما هو وأيش حصل؟
أقولكم التالي:
– أول بنت حبيتها في الجامعة طارت مني لأني لم أكن أفهمها وهي طايرة!
– أول فرصة عمل لي في الفضائية اليمنية وكنت الأجدر بها طارت مني وذهبت لآخر غيري معه وساطة طيرتني من كشف أسماء المقبولين!
– أول وظيفة تقدمت إليها في صحيفة حكومية؛ كنت أحق بها؛ لكنهم طيروني منها وقرحوني جو.
– أول فرصة حصلت عليها للكتابة في صحيفة عربية هي الأخرى طارت مني بعد أن طيرني منها وزير إعلام بلادنا بشكوى كيدية منه إلى هاذيك الصحيفة العربية بحجة اني كاتب يعارض النظام.
– أول مشروع شخصي أنشأت فيه صحيفة أهلية شطلب الله طار من يدي هو الآخر.
– سنة2011 المشؤومة كنت شابا حالما بالتغيير على أمل التحليق بالبلد الناشىء إلى فضاء أوسع، لكن دراويش ومجاذيب الإخوان ما عجبهم خطابي المناهض لهم في الساحة وقالوا أنت مندس وعميل للنظام وأمن قومي وطيروني من بينهم وطيروا بأم البلاد كلها نتف!
– سنة 2013 شفت شعارات الحوثيين مطعفرة عرض كل جدار في الحارة وقمت امسحهن شكتب بدالهن شعارات جمهورية ونبع لي واحد حوثي غضبان من تصرفي ذاك وقال يهددني: مالك تمسح الصرخة ياجني؟ أو تشتي رأسك يطير؟!
– في 25 مارس 2015 قرحت الحرب وكانت مشاهدة السماء وسماع أصوات الطائرات وهي تضرب بالصواريخ واحدة من أكثر الأشياء المرعبة التي دكت أحلام اليمنيين وشوهت بسمعة الطيران عندي.
وبينما كنت أطير نازحا من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى أخرى هربا من شبح الموت الذي يطارد الناس في الشوارع والأزقة والبيوت كانت أحلامي القديمة في الطيران تتناكع قدام عيوني وتتساقط من الجو مثل غربان ميتة.
وخلال سنوات الحرب عموما طار كل شيء بشكل جنوني ومرعب بما يكفي لمشاهدة بلادي وقد أصبحت مسلخا تطير فيه الرؤوس.
وبما يكفي لمشاهدة كل الأهل والجيران والأصحاب يتطايرون من الحياة ما بين موتى ومشردين ونازحين في كل قرية ومدينة وبلاد.
وبما يكفي أيضا لمشاهدة مدينتي الآمنة التي عشت لها وعشت حياتي كلها فيها؛ وهي تطير إلى أيادي الرباح!
وحتى الناس اللي اعتقدت يوما ما بأنهم سيكونون أجنحتي في التحليق؛ شفتهم يتطايرون من أمامي فجأة؛ واحدا بعد الآخر في مشهد اناني باذخ الطيران؛ صدمته أثرت بي نفسيا وكادت أن تطير لي حبتين الشعر في رأسي من شدة السأم.
– سنة 2020 عدت إلى الحارة بعد أربع سنوات من النزوح وكان كل شيء فيها قد طار في موسم واحد؛ لاعد جيران ولا عد حياة ولاعد دكاكين ولاعد خدمات ولا عد دولة ولا عد أمان ولاعد صحب؛ وماعد إلا خراب مهول يطير النوم من عيونك وأنت تفكر بما آلت إليه مصائر أهلك وجيرانك في سنين الحرب اللعينة العابثة والمدمرة.
وأما بيت جدي الذي عشت وترعرعت فيه سنين طويلة مع حلم الطيران؛ كان قد تهدم وسقطت أدواره إلى الأرض وكل شيء فيه طار مع الريح.. الطيقان؛ الأبواب؛ الخشب؛ السقف؛الأثاث؛ وحتى العائلة نفسها طارت هي الأخرى وذهبت نازحة في كل زوة من البلاد.
الشيء الوحيد الذي تبقى من بيت جدي الذي صار حطاما؛ هو باب درجان السقف؛ حيث كانت تقع خلفه مباشرة قمرة القيادة القديمة كآخر ما تبقى من أحلام الفتى الطائر؟!
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك