تكوين
لعله النرجس استطال في فضاء خواتمي، وادَّعي نسبته إليّ، أو أنه انتحل اسمي، خلسة، ثم خلع عليَ أحد ألقابه، فجئتُ أغفو على وسائده، وأمشي حالماً، وجئتُ أهذي بتفاصيله، وأعود إليَ منقسماً إلى سطح وقاع. في سطحي ماءٌ يدوي. وسفائنٌ تغّني، وفي قاعي أوتارٌ تهذي، ومآذنٌ تصلي.
وأنا مشدود إلى نهاية أوتاري، قزحٌ كاملٌ يرفضُ أن يُسمى،
ويتكسّر في مواعين أحلامه إلى مالا يحصى من الأسماء ،
وبذور الكريستال، فلأنته إلى حيث انتهيت. إما زبداً أقيم به سرجاً لموجة، وإما بحراً، أصطبه على فمي كياقوتة..
وأدخلُ أبيض كالموج، وأصعد أزرقّ كالماء، وأعتلي زرقة السماء ومنبر اللهب.
فليقايضني النرجسُ بنصف أحلامه وممالك شذاه، وأهبه بعض ما في سروي من فضاء. وبعض ما في فضائي من عتاد وأبهةٍ، وندخل متوَّجَيْن بالدهشة والملكوت.
قبلي كان للبحر اسمٌ واحدٌ، وللماء سقفٌ واحدٌ.
وللسماء سبعة أبواب. قلت: اسمٌ واحدٌ يكفي.
وسقفٌ واحدٌ قد يكفي، إذا وسعتهُ إلى آخر
خطاي، وسددتُ الثقوب الوسيعة في مساماته.
ولكن سبعة أبواب لعمر واحد، متفائل كالدعاء، لا تكفي.
وأومأت للبحر أن يتبعني، وللماء أن يغشى في أوردتي، ويخرج ذائعاً من أعراقها، ورددتُ ما للنرجس بي من زهو، وأطلقتُ مافي عصمتي من زهو، وخططتُ آخر الحدود مابيني وبيني، وصعدتُ في جنح الغيم، أفتتح عرش أبوابه كاملةً.
* * *
آخذ بيدي. صاعداً في سلاليم غيمي.
يداي قرنفلةٌ. وفمي أدعيةٌ، وأنا سقفُ ماء.
بعضي ينسجُ بعضي، فأولد بينهما على هيئة كرة من الطين
وأمضي أنقشُ في دائرتها أسمائي.
هذا أنا أقدح حجر صواني، وأسافر في فضاء لمعه، دخلتُ فليكن نهاية ما يحد الغيم، أولَ ما أشيرُ به إليَ، إذا دخلتُ، وليكن أول ما يبدأ به القلب، آخر ما أحدُّ به فضاء قصيدتي.
وليكن! إنني متعبٌ. وهذا آخر ما أُخيِّلُ في عيني
من أشجار النعاس، وآخر ما تبقى في زندي من
قشٍ، أقدحه، وأصعد ذاهلاً في جنون القصيدة.
وليكن. إنني على موعدٍ كي أفضَّ بكارة تاج الغيم،
وأجلسُ موهناً على عرشه.
* * *
هذا فضاءٌ من محار. حمائمٌ من فضةٍ، ونساءٌ من
نرجسٍ.. “يهبطنَّ في أكسية البروق وفي يواقيت الندى.
رافلاتٍ بأعشاب الوساوس. يدخلنَّ معطراتٍ بشذى تفاح،
يهيجُ في أوصالي الشهوةَ.. لهتك قناع كل مرآة، وكشف قاع كل قناع”.
أيائلٌ تتشرد في أشتاتي، وتجمعني على أحداقها من كل أنحائي..
حتى إذا رجعتُ إليَّ موهناً، وفتحتُ عيني كأني أستيقظُ من حلم،
وأنهضُ متثائباً، يقولُ لي الحلم: خذني إليك، ندخل نكمل رحلتنا في بساط هذا الفضاء.
تهبط الحمائم من ريشها. والنساء يصعدن إلى صنوجهن، ثم يرشن من ريش الحمائم قيثاراً، ومن سيقان النرجس أوتاراً، وينصبن على أعناق الأيائل هوادجهنَّ ويدخلنَّ مدثراتٍ بإزميل الغناء.
* * *
هو الغيم سُلَّمُك الزجاجُ، إذا خطوتَ، وأوَّل ما تقيم بسقفه زينةً، وتنصبُ هودجاً.
وهو رجوع أصابعك إليك من أقصى إشاراتها، وآخر ما تمدُّ إلى غصنٍ وتقرؤ في كتاب.
وهو انتصاب خندقك الأخير بقبص الموج، والزبد المكسّر،
تحت جنح خاصرة الزبد.
* * *
المدى تفاحةٌ، وأنا سكينٌ، وحيثُ هويتُ، ثقَبتُ على جلدها باباً،
وأطلقتُ العنان للنساء أن يستدرن في خواتيم شهوتي، ويدخلن يتفيأنَ في فضاء أشجاري، وأغصان هواي.
وأنا متعبٌ لا ريثٌ ولا عجلٌ كأن الماء يرسم
في خطاي نافورةً، والطين يفتتح في مداي قبةً.
وأنا أعود إليَ من أقصاي. في يدي مقاليد يدي. وفي
يدي مصابيح القبة.
والمحراب.
سيقول لي الطين:
هذا يوم أختتم فيه أسفاري وأدخلُ إلى ملكوت
يهبني التهليل، ويخلعُ علي بسطةً.. ينقشُ فيها
بعضي بعضي وأوُلِفُ منها قامتي الواحدة.
ويقول لي الماء:
أنا الجسدُ الذي أعطى للكلمات قوامها، وأنا النبعُ
الذي يؤآلفُ بين أشتات الحصى والحجارة والغبار.
دمي يتلو دمي، فينسج سورة ابتدائي، وندخل ننقشُ
في الفضاء خطوط فراشة نرجسنا الواحدة.
دخلتُ..
حيث أخطو ليس ثمة سماء ولا قاع.
أخطو فتنحرفُ بوصلة الجهات، تتسلل
جميعها من قطب واحد، تتجمعُ في نقطةِ مركز
وتخرجُ منها إلى خطوتي لترسمَ فضاء دائرة..
تبدأ الدائرة. تكبر. تكبر. وتصبحُ إلى مالا نهاية،
في حدود الفضاء، إذن بدأتُ…
فصل من
“زفاف الحجارة
..للبحر”.