تديين السياسة وتسييس الدين.. بين العلم والهوية الجامعة
كلما أتلو قوله سبحانه: 《وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ》 [٣٩الأنفال]
أقول كلما أتلو تلك الآية أتذكر ما ارتكبته وترتكبه الدول الدينية من حروب ومجازر باسم الدين، كالحروب الصليبية وما جاء في كتب المؤرخين من حروب بين المسلمين منذ ما سميت بحروب الردة مرورا بمقاتلة الطالبيين لابن قتيبة.
كما أنني أقف عند حكمة الله حين لم يأمر بقتال أحد مثل ما أمر بمقاتلة من يفرض نفسه سادنا أو قيما على دينه.
كما أقف عند حكمة الله سبحانه وتعالى حين لم يعط أحدا من عباده سلطة دينية على أخيه الإنسان مهما علا كعبه في الدين، كما في قوله لرسوله الكريم (لست عليهم بمسيطر) وقوله أيضا (وما أنت عليهم بجبار ..) وقوله أيضا (وما أنا عليكم بوكيل).
كما حدد له بأنه هو -أي الله وحده- القيم والوكيل على دينه وعلى عباده فقال: (إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل).
وتعجب ولما لا أتعجب من أولئك الذين يفتئتون على الله ورسوله ويتجاوزون مهة البلاغ المحددة للرسول، ويجعلون من الدنيا دار الابتلاء إلى دار جزاء.
حتى جاءنا اليوم من دجاجلة دين أنهم يحرمون الغناء والسماع والموسيقى والفنون ويفرضون الفصل بين الطلاب في الجامعات.
وكل ذلك هو من أجل توظيف الدين للتسلط على رقاب العباد.
فما أقبح توظيف الدين في الأهواء السياسية وللوصول إلى سدة الحكم.
قال الأستاذ الإمام محمد عبده -رحمه الله: (قاتل الله السياسة وساس ويسوس وسائس ومسوس فإنها ما دخلت في شيء إلا أفسدته حتى الدين).
وبهذه اللغة الواضحة، أبدى الأستاذ الإمام رأيه في تسييس الدين وتديين السياسة باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، وهما الطريق المعبد والنموذجي للخسارة المزدوجة، بحيث يصبح من يخلط بينهما كالمُنْبَت الذي لا ديناً قطع ولا سياسة أبقى!
وتسييس الدين منذ بواكيره كان تعبيراً عن استراتيجية دنيوية بامتياز، لأن الهدف هو تحصين الموقف السياسي ضد النقد، واصطباغه بقداسة ليست له أو من عالمه.
وما أن يشرع إنسان ما، في تسييس الدين حتى يكون قد تخلى عن الغايات الحقيقية لكل الأديان، وهي الدعوة إلى التعايش والوئام الإنساني والتسامح.
تسييس الدين نختزله إلى بُعْد مادي يخضع لمقاييس الربح والخسارة، ويزجّ به في معارك ليست معاركه وصراعات لا تمت بصلة إليه.
والتجارب التي عاشتها بعض المجتمعات وشهدت مثل هذا التسييس دفعت أثماناً باهظة، ومنها ما أدركه الندم، لكن بعد فوات الأوان.
ومن محاصيل هذا التسييس للدين خلخلة المفاهيم ذات العلاقة بالوطن، والمعادلات الاجتماعية، وإن كان تسييس الدين يلحق أذى بجوهره وبرسالته فإن تديين السياسة يؤدي إلى الأيديولوجيا الأشبه بالزنزانة أو الشرنقة التي يسجن فيها العقل، فلا مجال للحوار أو الاعتراف للآخر بحق الاختلاف، لأن تديين السياسة هو بمثابة احتكار الحقائق وادعاء المعصومية.
لهذا يضطر من يوظفون الدين لصالح السياسة إلى تقويل النصوص وليس تأويلها، وأحياناً يخترعون من خيالهم مرجعيات من شأنها تبرير أطروحاتهم، لكن عمر مثل هذه الحيل قصير، وتكذيبها يأتي من داخلها أولاً، لأنها تحاول المزاوجة بين الأضداد.
وقد تكون أشد الحروب ضراوة، سواء كانت أهلية أو تقليدية من نتاج هذا الخلط بين المفاهيم، وحذف الفارق بين ما هو سماوي وما هو أرضي.
إنها خسارة مركبة ومزدوجة يخسر فقهاؤها الدين والدنيا معاً.
الهوية وجامعة الإيمان:
عقب تحقيق الوحدة المباركة بين الشطرين عام 1990م أنشأ الشيخ عبدالمجيد الزنداني جامعة أطلق عليها (جامعة الإيمان) وكان الإيمان علم له نظريات وقواعد وليس هو هدى من الله، وأن الإيمان غيبي منحصر بين العبد وربه، كما أن الحكم فيه أخروي، فلا يعلم من ضل ومن اهتدى إلا الله حتى الرسول وعلو كعبه لم يكن يعلم ما سيكون مصيره يوم الدين.
قال له عز من قائل: (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين) [9 الأحقاف]
أي أنه لا يعلم من ضل ومن اهتدى إلا الله وأن كلية وجامعة الإيمان هي القلوب التي في الصدور وليست علما له نظريات ومعامل وكلمات، بل هو سلوك وهداية فمن اهتدى زاده الله هدى ومن ضل فعليها.
قال عز من قائل:
((إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل)).
فلا توجد جامعة إيمان ولا كلية إيمان ولا مدرسة إيمان وإنما الإيمان أمر غيبي لا يظهر في كتب القلقلات والعنعنات، ولا هناك رجال يسمون مصابيح دجى ولا قناديل ولا زنابيل.
والأخطر من تكون جامعة الإيمان هو ما جاء به “أنصار الله” اليوم، أي ما أطلقوا عليه “الهوية الإيمانية” وهذا تزايد وافتئات على الله ورسوله أيضا، وهو أمر يجعل ثلة من البشر محتكرين للإيمان، وهو متاجرة بدين الله فهم المؤمنون وما عداهم فهويتهم الكفر!!
وهذه “الهوية” تعتبر ملغية لهوية الانتماء الوطني، مع أن كل بلد يمثل هوية مستقلة عن هوية البلدان الأخرى.
فهويتنا نحن اليمنيين هي الهوية اليمنية التي تعلو على كل الهويات، سياسية ودينية ومناطقية وحزبية، لأن الهوية الوطنية تعلو على كل الهويات.
فالهوية اليمنية هي المظلة الجامعة التي تستظل تحتها كل الهويات.
فليتق الله من ابتدع هذا المسمى الساذج الدال على عدم فهم لمعنى الهويات ولمعنى الإيمان.
العلم والسياسة
وفي هذا الصدد، أي ارتباط العلم بالسياسة عبر عنه سقراط النبي الرسالي العظيم الذي جاء برسالة توحيدية.
وقد فطن إلى هذه الحقيقة الفلاسفة والشعراء فشوقي في همزيته في مدح رسولنا الكريم جعل القدماء السبعة وسقراط رسلا موحدين فقال:
يا ابن عبد الله قامت سمحة
بالحق ملل الهدى غراء
بنيت على التوحيد وهو حقيقة
نادى بها سقراط والقدماء.
وقد فصل سقراط بين الدين والسياسة وجعل العلم أساسا للحكم فقال في حواره مع جلكون كما جاء في جمهوريته:
(اعلم يا جلوكون أنه لا خلاص للبشرية من الشرور إلا إذا صار الحكماء والعلماء حكاما أو صار الأمراء والحكام علماء وفلاسفة فتجتمع قوة السياسة بالعلم والحكمة).
وهذا ما فطن إليه الغرب المتقدم فأدرك المغزى العميق لمقولة سقراط، فعلموا أن خلاص الأمم ونجاة البشر رهينان لهذا الاجتماع بين القوة والسياسة، وبين قوة العلم وحكمه، وليس معنى هذا أن يكون العلماء حكاما أو الحكام فلاسفة بالمعنى الحرفي لمقولة سقراط، بل أن اجتماع العلم والسياسة يتخذ شكلا آخر هو التعاون والتآزر بينهما.
نخلص مما سبق بأن إقحام الدين في السياسة إساءة للدين ومفسدة للسياسة، وأن ما يطلقون عليه هوية إيمانية هو افتئات على الله ورسوله، وفرض قيمومة على دين الله القيم على دينة وأن الدين لله والهوية الوطنية -اليمنية- هي الهوية الجامعة، وإنما الحق كل الحق هو ربط السياسة بالعلم وأقول العلم الخاصع لتجارب الصح والخطأ الذي فيه منفعة للبشر.
فأي علم لا ينتفع به في تطوير الحياة وخدمة البشرية هو علم لا يعول عليه كما قال الشيخ الأكبر ابن العربي -قدس الله روحه.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك