منبر حر لكل اليمنيين

دردشة داخل سيارة كهربائية في جدة

34

سيارة كهربائية تركية يقودها ولي العهد السعودي في شوارع جدة، في مشهد إشاري ينفتح برمزيته على دلالات عدة، ليس أقلها قيادة سعودية في الاستثمارات التركية، ولا «محرك» تركي للاستثمارات السعودية، ولا دعاية مجانية مهمة لتلك السيارة التي يقودها أمير بجوار رئيس، ولكن تلك الرمزية تنفتح على إحالات شراكة استراتيجية تلوح في الأفق، إذا سارت الأمور على ما يرام في تلك المنطقة من العالم التي يشبه الطقس السياسي فيها تقلبات المناخ العالمي.

الرئيس إلى جانب الأمير «يدردشان» في سيارة كهربائية في جدة، صورة لم يكن أحد ليتخيلها قبل سنوات، لكنه عالم السياسة والدبلوماسية الذي تعد وظيفته الحقيقية خدمة الاقتصاد.
إنها لغة المصالح التي تسعى للتركيز على المشتركات وتخطي الخلافات التي على إثرها خاضت وسائل الإعلام في الدولتين ـ خلال سنوات ـ «حرباً كلامية» شرسة، بدا بعدها أنها لم تكن في حقيقتها أكثر من تسخين لاعبين يستعدون لخوض مباراة ودية انتهت بتسجيل عدة أهداف لصالح الفريقين.

زيارة الرئيس إلى المنطقة تشمل إلى جانب السعودية قطر والإمارات، تأتي بعد فوزه بانتخابات كانت مصيرية له ولحزبه، وبعد أيام من مشاركته في قمة للناتو، جدد فيها اردوغان الدعوة التركية للانضمام للاتحاد الأوروبي، وهي الدعوة التي ظلت تركيا تطلقها دون أن تفتح لها أبواب أوروبا، ودون أن يمنع إغلاق تلك الأبواب أنقرة من التمسك بمطالبها، رغم حرص تركيا على التوجه شرقاً وجنوباً، في خطوات ترى أنقرة أنها يمكن أن تجعل أوروبا تطرق أبواب تركيا يوماً ما، وليس العكس.

نعود لمشهد جدة، حيث تحدث الرئيس ببعض الكلمات العربية، كنوع من «براعة استهلال» الضيف، فيما مد الأمير يده مصافحاً في استقبال نم عن حجم ترحيب المضيف، كما عكس الطرفان رغبة كبيرة في الانفتاح على مرحلة جديدة.
وتستمر تداعيات المشهد، فالأمير السعودي يبدو مهتماً بالاقتصاد، تجربة الحروب «خلال السنوات الماضية» أعطت درسها أو دروسها بما فيه الكفاية. «إنه الاقتصاد» الاقتصاد هو القوة الناعمة، ولكن الاقتصاد يحتاج كذلك إلى القوة الخشنة لحمايته، ويبدو أن هذه أهم ملامح الاستراتيجية السعودية بعد عقد أو أكثر من التقلبات الكبيرة في المنطقة، وهي الاستراتيجية التي يمكن تلخيصها في «قوة الاقتصاد» و «اقتصاد القوة» حيث تتجه الرياض لمراكمة عوامل القوتين: الناعمة والخشنة.
وبعد عقد من الصراعات يبدو أن القوى الإقليمية المختلفة أدركت ضرورة امتلاك القوة في المجالات المختلفة، وهذه القوة «وخاصة القوة الاقتصادية» لا تأتي إلا في سنوات السلام الذي تعبت المنطقة كثيراً في سبيل الوصول إليه، دون أن يتحقق بالشكل المطلوب لنهضة اقتصادية حقيقية.
هذه السياسة الإقليمية التي يطلق عليها وصف «التهدئة» تعكس رغبة الأطراف المختلفة في التجاوز، تجاوز اللغة، تجاوز الخطاب، تجاوز السياسات، و«تصفير المشاكل» وهو فيما يبدو» هدف مشترك سعودي تركي، كما هو ملحوظ من مراقبة السلوك السياسي للعاصمتين.

الرياض من جهتها خلصت إلى ضرورة تهدئة الجوار الإقليمي. فاجأت العالم بالاتفاق مع طهران، تسعى لحل جذري للصراع في اليمن، بعد أن تجاوزت «الأزمة الخليجية» وأزمات أخرى، وهي الخطوات التي تراها القيادة السعودية ضرورية للتركيز على الاقتصاد، ولعب دور إقليمي ودولي يتلاءم مع حجم المملكة اقتصادياً وسياسياً ودينياً.
وإذا كان التفاهم مع الإيرانيين يهدف لتقليل الأضرار من وجهة نظر سعودية، فإن التواصل مع الأتراك يهدف لمضاعفة المنافع، بعد أن أبدت أنقرة حرصاً واضحاً على تصحيح مسار علاقاتها مع أشقائها العرب، وبدأت خطوات متبادلة بين أنقرة من جهة والرياض والقاهرة وأبوظبي من جهة أخرى.

والواقع أنه منذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، لا تكف أنقرة عن حث الخطى للانفتاح على العرب، والاقتراب منهم بشكل أكثر، مع إدراكها لإرث تاريخي ثقيل، مع بعض الخلافات السياسية التي شابت علاقاتها مؤخراً مع بعض العواصم العربية، غير أن الخطاب التركي في عهد «العدالة والتنمية» ـ إجمالاً ـ كان ذكياً بعزفه على الوتر الإسلامي في تعامله مع الخارج العربي من جهة، وعزفه على الوتر القومي في تعامله مع الداخل التركي، من جهة أخرى، وهي السياسة التي يرى مراقبون أنها حققت للعدالة والتنمية بقاءه في السلطة لفترة طويلة نسبياً، وساعدته على إنجاز برامج عمله التي يتداخل فيها الاقتصاد والسياسة والدين بشكل متناغم، وذلك بالمزج بين العاطفتين الدينية والقومية في سياسات الحزب الداخلية والخارجية، وهو المزج الذي نجح فيه حزب العدالة والتنمية التركي، على العكس من تجربة الأحزاب ذات التوجه الإسلامي في الوطن العربي، وهي الأحزاب التي أرادت إلغاء البعد القومي والوطني لصالح الإسلامي في خطابها ومشروعها، الأمر الذي أدخل المنطقة في موجات من الصراع الداخلي بين الجماعات الإسلامية والأنظمة، ما زالت تداعياته تتجاوب حتى اللحظة الراهنة.
وفي سياق العلاقات العربية التركية يحسب لحزب العدالة والتنمية كذلك أنه استطاع تقديم خطاب تركي متجاوز للعُقَد التاريخية في تلك العلاقات، وهو الخطاب الذي يريد أن يتجاوز تاريخ الصراع، ليقوم على رؤية براغماتية اقتصادية، تستلهم جوانب التعاون وتتجاوز الخلافات. ويبدو كذلك أن الرغبة في تجاوز «العقد التاريخية» موجودة لدى الأطراف العربية كذلك بعد إدراكها أن الشعوب التي تحبس نفسها في اللحظات الصعبة أو المظلمة من تاريخها لا تستطيع أن تتقدم نحو مستقبلها، لأن كثافة اللحظات التي حبست نفسها فيها تجعل رؤيتها للمستقبل معتمة.
هناك ـ إذن ـ تحسن ملحوظ في العلاقات العربية التركية، وهو تحسن لا مناص منه لجميع الأطراف فيما يبدو، نظراً لعدد من العوامل والمتغيرات، مع وجود الجار الشرقي المشاغب للعرب، ومع شعور العرب ودول الخليج ـ خاصة ـ بنوع من الابتزاز الأمريكي ـ أمنياً ـ لدول المنطقة، ووسط إقليم ملتهب أصلاً، وفي ظروف اقتصادية غير مستقرة في كثير من دول المنطقة، تجد دول الخليج ـ بالأخص السعودية ـ نفسها أمام تحديات كبيرة صبت ليس في صالح تنويع علاقاتها شرقاً وغرباً، ولكن في صالح تنويع وتطوير مواردها الاقتصادية، وفقاً لرؤية المملكة 2030.
على الجانب التركي، ترى أنقرة في الانفتاح على الخليج أحد الحلول لاقتصادها الذي يعاني من أزمات متلاحقة، وترى فيه نافذة واسعة لها إلى العالم العربي، كما أنه يعطيها عمقاً استراتيجياً في مواجهات تحدياتها الإقليمية والدولية.

بقي هنا سؤال ربما طرأ على ذهن المشاهد اليمني، وهو يتابع مشهد السيارة التركية في جدة: ترى هل سيكون لهذا المشهد أثر على الساحة اليمنية؟
وهل سيكون لتطور العلاقات السعودية التركية ـ تحديداً ـ دور في حل المشكل اليمني؟
وكيف يمكن أن تتعاون الرياض وأنقرة في إنضاج تسوية يخرج بها هذا البلد من محنة عشريته السوداء، في ظل رغبة إيرانية باتت ملحوظة لإطالة أمد الصراع لاعتبارات معروفة؟

تعليقات