منبر حر لكل اليمنيين

“يوليو”.. تاريخٌ كالنَّهرِ لا يتكرّرُ مرَّتين

29

التاريخُ زاخرٌ بالمنعطفاتِ المضيئة، مليءٌ بالأماكنِ المشرقة، والأفكار العظيمة، جديرٌ بالكتابة والتدوينِ، قادرٌ على تفجير الطاقات وبَلوَرةِ الملكات وإحياء مكامن الخفوت، وتتويج الذين يعشقون الحياة بالمحبة والخلود.

ومثلما هو يعج بكل تلك النواميس والمسارات، فهو أيضًا مُحاط بالضغينة والصراعات، والجدل والمؤامرات التي لا تتوقف، والقوى الناعمة والجموع الصاعدة، والمشاعر المرتَجَلة، والعواطف اللزجة، والأيديولوجيات المعقدة، والنظريات الرتيبة، والسياقات التي تُرهق الأذهان والابدان، لو لا أن هناك من يُطوِّع كل ذلك ويحوله إلى فعلٍ قادرٍ على التنوير مستعد للتضحية، من أجل الوصول إلى دائرة النضج وزوايا الانتصار للحقيقة.

نحن اليوم نقف في هذا المقام الفريد، على شرفات اللحظات العتيدة التي توارت، والمجازات الظامئة التي اختنقت بالعبرات، والجُمل المتناثرة على رفوف الغيم، والملاذات التي لم تعد قادرة على منح العابرين ظلالها.

نحن اليوم لا نكتبُ التاريخ، بل نفتحُ صفحاته المرئية أمام الجميع، نستعرض أحرفه الزاخرة بالحكمة والعزة والشموخ، ونُبِيِن الكلمة، كي تبدو أكثر جلاءً ووضوحًا، ونقتبس العبارات لنصنع منها وصلات مبهرة تتزين بها عيون القراء وأفئدة المتابعين، وتصبح حلقة وصل بين الأذهان المتقدة وصاحب السيرة العظيمة.

حين يدرك الكبار أنهم سيعيشون عمرا واحدا لا أكثر، فهم
يخوضون غمار الحياة دون تردد أو خوف، دون مهابة من الموت، مجردين من كل الفوارق، غير ابهين بمشانق الأعداء وسفاسف الكلم، يواجهون الأقدار بما تحلّو من ملكاتٍ وصفات صبر ورباطة جأش وطموحات لا حدود لها، فتأتي إليهم الحياة تِباعًا، تنهل الدروس وتقدمها مشرعة النوافذ والأبواب على طبق من ذهب للأجيال القادمة.

الصاعد نحو الرئاسة القادم من أرض البسطاء ومعسكرات العز التي كانت تحمي الوطن وتُربِّي الرجال على الصلابة والبأس، الباعث روح الحياة في وطن مليء بالتعرجات والتعقيدات، المتنوع حد المتاهة والمتشابك حد الروح الواحدة، الزاهد في خضم الصراعات المحذر من الانزلاق، الداعي إلى سلام دائم واستقرار متكامل، القادم من جبال سنحان وحقولها وقلاعها الشامخة.

الرائد الذي لا يكذب أهله وهو يقول: “كنتُ مُوَطِّنٌ نفسي منذ وقت مبكر من بعد ثورة 26 سبتمبر على الشهادة وقد تم ذلك وعدت من الموت”، الفارس الذي أوفى لبلده حتى آخر طلقة من فؤاده، الحابس أوجاعه الكاظم للغيظ العافي عن الخصوم، الزعيم الذي افتقدته البلاد برمتها.

في هذا الخضم التاريخي، هناك زوايا وشرفات تحتاج فيها إلى الكثير من الاجتهاد ودقة المعنى، ومنح الخطاب الذي أنت مقدم عليه؛ مسحةً كي يصبح قابلًا للتأمل والادهاش، كما أنك بحاجة لبلورة السياق كي يصير مختلفًا كاختلاف الرمزية التي أنت بصدد الكتابة عنها.

اليوم لم تعد هناك مكانة للغة التقليدية الرسمية في حضرة الشهيد الرئيس على عبد الله صالح، الرجل الذي لا يتكرر مرتين، صاحب الروح الأعمق والكاريزما الاخاذة، والاستثناء في كل شيء.
اليوم يجب أن نجد صورًا جديدة وسياقاتٍ تُمنحُ معها الافتراضات ومنهجية الاستقراء مساحة واسعة، من أجل إيجاد المغايَرة، حول سنوات من العمل والمكابدة والجُندية وبلوغ الرئاسة، وحتى الخروج منها والرحيل عن الدنيا، شهيدًا رافعًا رأسه رافضا الخنوع والذل، وعدم منح الخصم الحامل لكل أدوات القمع والعنصرية والمناطقية والمذهبية؛ فرصة كي يحقق أحلامه، من خلال جرجرته في المحاكم كعادة القتلة وأصحاب الثارات والنعرات والمشاريع الغريبة كالسرطان، بل واجه ببندقيته وحيدًا متفردًا داخل بيته حيث كان يسكن مع عِرضه وأولاده.

تمامًا وعلى غرار الحديث عن العظماء في التاريخ: الثوريين منهم والسياسيين والنجباء، وأصحاب الشأن ورجال الفكر والأدب، يمكن لنا أن نورد سيرة الفتى ابن سنحان، قائد لواء تعز ومعسكر خالد، فتى المدرعات وجريح المواجهات مرتين مع فلول الملكيين، العائد من الموت مرات، الخالد في ثنايا السطور وكُتب التاريخ.

قد لا يتسع المقام للاستشهاد بأدوار الرقيب والمساعد والملازم ثاني، قائد الفصائل والسرايا وأركان حرب كتيبة المدرعات، ومدير التسليح، قائد قطاع المندب، لكن الحقيقة تحتم علينا أن نسرد ما تيسر من رؤى وأحلام وطموحات ومنجزات طيلة ثلاثة عقود ونيف، وأن نسترجع الكثير من المعطيات والشواهد التي كانت ذات يوم أيقونة وقيمة من قيم العمل والإرادة، بالصورة واللغة التي يحبها كل واحد منا.

المسألة ليست تجاوز لما قد يسميه البعض تاريخ عابر، أو مرحلة لا تستحق الثناء، فهناك ما يدفعنا للحديث والكتابة والتدوين بكل الحروف والمعاني، بمختلف اللغات والأفكار، دون التقيّد بمداد واحد، فالتعدد سمة الألوان والطبيعة، سمة مرحلة من الخطوب والأحداث والتجليات، والحركة والإنتاج والبذل والعطاء والترحال، وصناعة دوائر السياسة، ورَسم خطوط الممكنات، وإعادة تأهيل المعاق، والتلويح للمستقبل بالمجيء.

قد لا نستطيع بناء فكرة عظيمة والتركيز على مجمل ما جاء مع مجيء الرئيس الشهيد، من محطات غاية في الأهمية، على مستوى الذات وعلى مستوى الغاية والهدف، وعلى مستوى ترجمة كل ذلك وتحويله إلى شاهد حي في كافة المؤسسات، التي تم شيطنتها لاحقًا وتدميرها بشكل كامل، بالهراوات والشعارات وأدوات الزيف، من إعلام وهيكلة وإحلال وإقصاء، وافراغها من مضامينها السامية والموَّجهات ذات الأثر الناجع والإيجابي، المؤسسات التي تلاشت عن الوجود اليوم، ولم يبقَ منها سوى الأثر.

القيمة العظيمة دائما تكمن في الأفكار وترجماتها إلى واقع ملموس، كانت كذلك مرحلة العقود التي بدأت أواخر السبعينات مع صعود الشهيد علي عبد الله صالح إلى سدة الحكم في ال17 من يوليو، إلى ما بعد الألفية بسنوات تجاوزت العشر، قبل أن تحل الفوضى وتتلبس البلاد أرديةُ العاهات، وحُطّاب الليل، ونوابغِ الظلام؛ ممن تجرأوا على الزيف واستعانوا بمساحيق الإيديولوجيات والعصبيات ودوائر المخابرات الإقليمية والعالمية.

السلام على روحك الطاهرة فتى سنحان، السلام على أهلك الطيبين وأصحابك الأوفياء، السلام على ايامك على عظامك، على رفاتك، على مثواك، السلام على أول مشاعل الحرية وآخر دروب السلام، السلام على الشهيد البطل الحي في قلوب الأمة.

تعليقات