منبر حر لكل اليمنيين

١٧ يوليو عهد الرئيس الصالح

29

في ١٧ يوليو من عام ١٩٧٨م قرر الضابط المرابط على رأس قيادة لواء تعز وقائد معسكر خالد بن الوليد التحرك السريع صوب العاصمة صنعاء، تلبيه لنداء الواجب الذي أفضى إلى مشاركته في قيادة تلك المرحلة الحرجة، وأنتهى بتسلمه رئاسة البلاد عبر إجماع ديمقراطي غير مسبوق .

هل يمكن اختصار رحلة طويلة بدأت في الكتاتيب وانتهت في أعلى قمة في السلطة، بكتابة سطرين كما بدأتُ مقالتي هذه، بالتأكيد سيعتقد القارئ أنها مقدمة مختصرة لتاريخ من الصعب اختزاله بسطور أو مقال أو حتى كتاب.

شهدت اليمن حالة اضطراب شديد في قمة هرم السلطة، بعد أن كان يظن البعض أنها قد تعافت، وظلت تترنح عبر سلسلة من الانقلابات التي أعقبت ثورة 26 سبتمبر، قرر الضابط علي عبد الله صالح التحرك بكل شجاعة تلبيه لنداء الواجب ولمعرفة ما يدور، وليزيح الستار عن مشهد لطالما أكل الرؤساء من أبنائه شمالًا وجنوبا، أحدهم يُغتال والآخر تنفجر به حقيبة قيل أنها ديبلوماسية بعد شهور قليلة من توليه الحكم.

أوضاع البلد لم تكن لتسر صديق ولا عدو، الوطن على حافة الهاوية، ثمة أفقا مفتوحا على مصراعيه، الضابط الجسور في ريعان شبابه ونضجه، يتجاوز كل الحواجز ليصل مقر القيادة العامة بصنعاء، ملتحفا كفنه متسلحا بشجاعة نادرة وإرادة صلبة لوضع حدًا للتدهور الذي أصاب رأس السلطة ومحركها الأول، وليضع البلد على سكة الاستقرار والتنمية.

بهكذا خطوات أمتلك الراحل الشهيد الزعيم علي عبد الله صالح رؤية لكيفية إدارة الحكم وشؤون البلاد، متسلحا بذكاء فطري رباني، وإيمان وعزيمة لا تلين أمام المصاعب والملمات.

وبحكم الأوضاع والظروف الاجتماعية كانت البلاد خارجة من نفق الإمامة المظلم، لم ينل الشهادات العليا، مع ذلك حاول التدرج في الرتب والوظائف والأعمال ونيل الخبرات، ليحوز على شهادات عديدة وتكريم، كانت أثمن من كل شيء في اطار هدفه الكبير، حيث جاءت انعكاس للمهارات التي تحصل عليها من جهود ورغبة في التعلم والتدرج للوصول إلى أعلى الوظائف “رئيسًا للجمهورية”.

كان الأمر شاقا بكل تأكيد والمحاذير تتناثر في الدروب والطرقات، وعيون المتصارعين أوسع من فوهة بركان، غير أن صالح استطاع تهدئة النفوس وكبح جماح نزيف الدم، وفتح صفحة جديدة بشجاعة عالية، والمضي قدما نحو ميلاد مشرق ميلاد بلد بعهد جديد.

أدرك متطلبات المعركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، شق طريقه نحو الديمقراطية كخيار وحيد بأدوات وامكانيات محلية شعبية، مع الاستفادة من تجارب الآخرين، من أجل اللحاق بركب الشورى والتنمية والحريات والتطور الذي وصل إليه العالم.

خدمته في هذا المضمار مجموعة من الصفات: البديهة، الشجاعة، الإصرار، الإقناع، عدم التردد، رغم المثبطات الكثيرة في مجتمع تقليدي، إلا أنه كان جديرًا بالسير بمحاذاة كل المعوقات والتخلص من المخاوف والعراقيل.

لم يكن علي عبد الله صالح رحمه الله دكتاتورا أو متسلطا، بل على العكس من ذلك، كان رحبًا بدليل أنه استوعب تحت مظلة الوطن والديمقراطية والشورى كافة الأطياف والمذاهب والتيارات المناوئة والمناهضة، وتلك ميزة عرفها البعيد والقريب، حتى الذين كانت على أعينهم غشاوة.

عرف صالح بصفات جمة كانت كفيلة بأن تجعل منه صاحب كاريزما وشخصية متميزة عن أقرانه العرب واليمنيين من الرؤساء والشخصيات السياسية، فكان شديد الغضب لقضايا الوطن متسامح في السياسية والحوار، بدليل الحوارات التي خاضها منذ صعوده الحكم بجدارة فاقت أصحاب الخبرة، كما كان كريما وعطوفا وحنونا على أبناء شعبه، يخشى على الوطن من المآلات التي لم يكن يدركها الكثير من أصحاب النزق السياسي سواءً من الشباب أو الكبار.

أقر الخطط وتابع المشاريع واستخراج البترول، ووظف العائدات لبناء المدارس والمشافي وانشاء الطرقات وتشييد الجامعات والمعاهد والابتعاث للخارج، ارسى دعائم تجربة سياسية تشاركية مع جميع القوى السياسية والشخصيات المؤثرة في البلد، واستقطب العقول في كل المجالات، أقر الميثاق الوطني وأصبح المؤتمر الشعبي خيمة وطن وفضاء للحوار وتحدي الصعاب بدون إقصاء أحد أو استبعاد، لم يقمع معارضيه كما يصور البعض وأطلق حريات التعبير والصحافة والراي.

من كان يحبه أو يكرهه لا يمكن إلا أن يقر بأن علي عبدالله صالح هو عراب الوحدة اليمنية التي كان تحقيقها سياج قوة ولحمة بين أبناء الشعب الواحد، وكانت حلم ناضلت
من أجله الحركة الوطنية على امتداد تاريخها.

هذا المقال ليس جرد حساب لما قدمه الرئيس الصالح طيلة حياته السياسية في الحكم وخارج إطار الرئاسة كجندي فالأمر يحتاج إلى ضالعين في التاريخ ومناهج البحث ودارسين منصفين وكتاب أصحاب ضمير.

صالح سيرة تحتاج من للوقوف أمامها بمسؤولية وشجاعة من أجل ألا يترك التاريخ لأصحاب الأقلام المنفلتة والرغبات المناطقية الضيقة التي جبلت على التشويه والنزعات المذهبية المتطرفة والأفكار السوداوية الخبيثة، فالسيرة التي بدأت بشجاعة واقدام انتهت بنفس الطريقة الشهادة علو في الحياة وفي الرحيل.

علي عبدالله صالح تمكن من نسج افضل العلائق مع الدول والقوى الدولية يصبر احيانا ويناور في احيان اخرى في بيئة اقليمية ودولية مليئة بالنزاعات والصراعات وشديدة التعقيد، كما لا ننسى أناقته ولياقته ولباقته وحضوره المراسيم والزيارات بكامل هندامه منضبط مع البرتوكولات هادئ وحكيم.

علي صالح منذ ١٧ يوليو يوم نهض بالمسؤولية الوطنية حتى استشهاده التزم بالقضايا القومية وفي مقدمتها قضية فلسطين التي دعمها وساندها في كل المنعطفات، كان زعيما عروبيا شهما احبه العرب قادة وشعوب امتلك كاريزما جعلت منه ضيفا محببا على القادة والشعوب حيثما حل أو ارتحل.

ستبقى سنوات الزعيم الصالح شاهدة على عظمة اليمن وتألقه، ولعل الواقع اليوم أبلغ من كل العبر والاماني، بلاد تضيع من بين ايدينا وليس لنا إلا الرجاء وان نلهج بالدعاء لعل وعسى، حال أضحى عليه كافة اليمنيين إلا الفاسدين الذين وجدوا في غيابه فرصة فاستأسدوا وتوحشوا دون مبالاة بالمأساة.

رحمك الله في عليين أيها الزعيم اليماني الذي قدم إلينا من فجر التاريخ والحضارات لتشرق اليمن من جديد وتصبح ازهى واجمل قبل أن تختطفها طيور الغزاة، والعار كل العار  على الخونة والمرجفين، ولا نامت أعين الجبناء.

تعليقات