منبر حر لكل اليمنيين

“جلوسًا على العين أو وقوفًا”: مفارقات شاعر حزين

9

في مجموعته الشعرية الأولى “جلوسًا على العين أو وقوفًا”، الصادرة حديثًا عن “أروقة للنشر” في القاهرة، يكتب الشاعر اليمني أوراس الإرياني ما يشبه سيرة عابرة للحزن، مبتدئًا به كتابه ومنتهيًا به: “وضع الحزن يده على خدّي/ بعد قليل سيغلق النافذة/ ويصنع من هشاشتي قارةً صغيرة/ أقلّ ضياعًا مني”.
غير أن حزن الإرياني، وهو أحد كتاب قصيدة النثر اليمنية، لا يفتقر لباقة ورد يفتتح بها مجموعته، ضمن إهداء إلى رفيقة دربه، أو “الوردة بين العاصفة”، كما يسميها، فهي التي انتشلتني من الهاوية، وأشعلت في أعماقي شموع الحياة: حبيبتي، وصديقتي، وزوجتي إيناس.
وبينما يؤنسن المسافات والكائنات في دروبه، يحتفي الشاعر بالحب ممجدًا تفاصيله ومحلقًا في فضاءاته، حتى أن نسمة هواء لطيفة مرّت لتوها بين العشب لا بد من اختطافها وإهدائها إلى حبيبة في لحظة بوح خالصة: “في المكان الذي غاب كمسافةٍ/ وصار ذاكرتي/ حكيتُ لحبيبتي/ عن أصدقائي الطيبين/ وعن البحر/…. وأهديتها هواءً مرّ بين العشب”.
ويكاد الحزن ينتشر في أرجاء المجموعة لولا أن الشعر يعلن تداويه بالحب على حساب أحزانه الكثيرة، فيخترع مطرًا يُبلِّلُ طيورًا بنت أعشاشها من “الحزن”، وكل ذلك في لحظة تجوال مع قلبه كما يقول، في أفق خيالاته وأمكنته الشعرية، حيث الحبيبة ترمم آهات روحه في شارع يخلو من المارة، ومن أوجاع العالم: “لم يكن شارعًا/ بل كان قلبي….”، ولا يكتفي بهذا، بل إنه يعلن اشتباكه المباشر مع الحزن تحت سقف الحياة: “أتذكرين الحزن/ الذي رميت به من النافذة؟/ لم يكن حزنًا/ بل كنت أنا”.
تضمنت المجموعة 43 نصًا تتخذ في معظمها تقنية المقاطع القصيرة، تتداعى في سياقاتها مفارقات يبرع الشاعر في إطلاق رصاصاتها بين السطور، مستعيدًا طفولته عندما كان صغيرًا، حيث كان يتجه إلى المرآة، يقف أمامها ويبكي كلما داهمه الحزن تلبيةً لرغبة دفينة في مراقبة الدموع المنهمرة، وكيف تأتي من العدم، لكنه عندما كبر، كان يذهب إلى المرآة، أيضًا، كلما شعر بالحزن، غير أنه كلما وقف أمامها صارت تبكي!

ينجح الإرياني في لعبة المفارقات على نحو لافت، متجاوزًا مشاعر القلق والخوف والاضطراب الكامنة في رأسه، ضمن يوميات بلد تتآكله الحرب بكل بشاعتها ومآسيها، فالرجل قصير القامة ها هو على استعداد لكتابة مطولّات شعرية: “اصمت أيها القلب/ لديّ ما يكفي من الأحزان/ لكتابة قصيدة طويلة/ وأنا رجل قصير/ وسجائري على وشك الانتهاء”. حالة من النزق الجميل الذي يؤنسن الأشياء ويتفاعل معها في سياقات عكسية غير مملة: “لم أنظر لتلك المرأة/ التي تمشي بين المطر/ لأني كنت المطر!”.
وتستمر مفارقات الإرياني ضمن كتاب يشي عنوانه بنزق شعري مخاتل وغير متوقع: “جلوسًا على العين أو وقوفًا”، حيث أفضت يوميات الحرب التي طالت كثيرًا بكل الناس إلى الملل والعزلة وعدم التصالح مع الوقت، الذي صار، في ظروف كهذه، خطرًا ينبغي التعامل معه بأداة من أدوات الحرب والتصفية: “رجل عادي جدًا/ أحبُّ النمر الورديّ/ وأتجنب حروف العطف/ الشيء الوحيد الذي أفكر بقتله/ في هذه الحرب/ هو الوقت”.

سقفٌ حزين
وبينما يُكثِر من التحديق في سقف الغرفة في محاولة للتخفيف من الحزن، يرى “الكون”، فالسقف برغم مساحته الصغيرة والمحدودة يصير تحت طائلة التحديق المكثف كونًا كاملًا من الحزن، كما أن الناس في خضمّ أحزانهم هم الآخرون يتحولون إلى أشياء أخرى سمتها الرئيسة (الحزن): “مع مرور الوقت/ يتحول الواحد منا إلى عمارة/ من الحزن/ خالية من الأحلام/ نوافذها تطل على شارعٍ مظلمٍ/ تمشي فيه الدموع والأوجاع”.
تتواصل الكتابة حيث يصير في مقدور الشاعر السباحة على ظهره في ساعات الليل متأملًا ملامح امرأة تقول أشياءً جميلةً عن الحزن، هو الذي “حُزنُه امرأةٌ تنظر إلى البحر!”، كما يقول.
ويحاور الشاعر صمت الغرفة بالتوازي مع حوارات غامضة ينجزها في صمته، ثم يكتب حواراته شعرًا “كما وردت”، من دون تعقيد، أو استخدام عبارات مُركّبة لا يفهمها القارئ العاديّ، متذكرًا سلحفاة قديمة قام بتربيتها في طفولته كي يثبت للعالم، عندما يكبر، أنه “شخص كسول”، ولا يُراهَن عليه في شيء، لكن غيمة الحزن إذ تطغى على معظم تفاصيل حياته، وكثير من قصائده، ستظل حاضرة حينًا، وحينًا متخفية في ظلال كتابة تؤنسن الكلمات، وتسمو فوق أحزان وجراح متفاقمة. فمن حوار مع كلبٍ يتعكز على يده المكسورة وسط مدينة ضاجة بالناس، وبالقمامة، على السواء، تبدو عليه ملامح الخذلان وألمه لا يُخفى: “المهمّ لا تنس اسمي “أوراس”، بطاقتي الشخصية ضاعت/ الشيء الوحيد الذي أراه في غرفة مظلمة/ هي المحبة”، إلى بحثه، في نص ختاميّ عن “مايا” قطّته الأليفة التي خرجت ذات يوم ولم تعد، حيث سيصادف امرأة مسنّة تجمع علب الماء الفارغة، ظنّت في بادئ الأمر، أنه جاء ليزاحمها في جمع العلب فباشرته بالقول أنها جاءت قبله، وأن كل علب الشارع هي ملكها: “طمأنتها بأني أبحث عن مايا/ قالت: مايا من؟/ قلت لها: قطّتي”.

*ضفة ثالثة 9 يوليه 2023

تعليقات