اليمن.. المسار الإنساني أولاً
قبل أيام أصدر سفراء المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا المعتمدون في اليمن بياناً دعوا فيه الحوثيين إلى “الكف فوراً عن أي أعمال من شأنها أن تلحق مزيدا من الضرر باقتصاد اليمن”.
وأشار السفراء الثلاثة إلى مقترح لا نعرف تفاصيله قدم بخصوص الرواتب.
البيان أعاد التأكيد على “عدم وجود حل عسكري للصراع في اليمن”، وهو أمر صار محسوماً ومحل إجماع إقليمي ودولي وإن كان كثيرون يشككون في التزام الحوثيين ببنود الهدنة الحالية ثم وقف إطلاق النار بصورة دائمة إن اتفق عليه.
وهدد ممثلو الحكومات الثلاث بأنه في حال الإخلال فإن الحوثيين سيتعرضون “إلى العزل التام عن المجتمع الدولي”.
ودعوهم “إلى إعطاء الأولوية للشعب اليمني والانخراط بشكل بناء مع جميع الأطراف في الجهود المبذولة لتحقيق السلام”، ثم طالبوا “جميع الأطراف السماح بالوصول غير المقيد ومن دون عوائق للمساعدات إلى المحتاجين”.
عدا استخدام المفردات الحادة فالواقع أن النص لا يحمل أي جديد فالجميع صار يعرف أن الحرب بتدخلاتها الإقليمية انتهت، وإن كان هذا لا يعني أن السلام صار قريباً لأن التعقيدات الداخلية من الصعب حلحلة خيوطها المتشابكة مناطقياً ومذهبياً.
كما أن تراكمات الأحقاد والكراهية التي أنتجتها ضربت جذور المجتمع إلى أعماق لا يمكن أن أية عملية سياسية ستكون قادرة على ردمها من دون أن ترتقي القيادات الحالية إلى مستويات مرتفعة أخلاقياً ووطنياً وهو أمر مشكوك فيه.
إن أي اتفاق للتسوية السياسية بين ما صار المجتمع الدولي يطلق عليهم “الأطراف” لن تكون محصلته إلا بمقدار ما يمتلكه كل “طرف” من القوة على الأرض، وفي وضع كهذا يجب فهم أن الدفع نحو هذا المسار السياسي لن يبدأ إلا بعد إنجاز المرحلة الأولى المرتبطة بالجانب الإنساني، ومحاورها الرئيسة هي فتح الطرقات كافة وإطلاق من تبقى من الأسرى والمحتجزين، وأيضاً صرف الرواتب في عموم المناطق اليمنية.
وهذه يصعب تنفيذها في ظل فقدان كل الموارد التي كانت الحكومة تحصل عليها من تصدير النفط إلى أن هدد الحوثيون باستهداف كل الناقلات التي تدخل الموانئ الواقعة تحت سيطرة “الشرعية”، وصارت القضية الإنسانية ورقة ابتزاز يكتوي المواطن وحده بلهيبها.
الفترة الزمنية الطويلة للحرب أدت كما هو الحال في كل الحروب إلى خلق بيئة مسمومة لم يعد من الممكن معها التفكير بحلول وطنية وأخلاقية لأن المستفيدين الممسكين بالقرار تضخمت مصالحهم المادية والسياسية إلى الحد الذي يصعب معه أن يدفعوا نحو بدايات سريعة وجادة للمسار السياسي.
ولهذا يكون لزاماً على المبعوث الأممي التركيز على المسار الإنساني فقط لأن النجاح فيه كفيل بتمهيد السبل أمام وقف الحرب وتهدئة النفوس.
يظن كثيرون أن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية سيكون العامل الحاسم لإجبار “الأطراف” على الجلوس معاً لبحث المخارج، لكن ذلك أمر مشكوك فيه لأن ذلك يستدعي الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الناس.
ومن اليقين أن ميليشيات (أنصار الله) الحوثية استنزفت كل المبررات التي استعانت بها خلال سنوات الحرب للامتناع عن الوفاء بالتزاماتها الأخلاقية تجاه المواطنين كما توقفت عن دفع رواتب الموظفين في المؤسسات الحكومية، وهو عقاب جماعي تمارسه الميليشيا من دون أن تسمح بأي احتجاجات.
كما أن كل الخدمات الأساسية صارت مكلفة ولا يتمكن المواطن العادي من تحمل أثمانها.
“الطرف” المقابل الذي يمثل “الشرعية” يعيش مزيجاً مزعجاً من الارتباك والفوضى وتدهور قدرته على التحكم في الانهيارات الأمنية والمعيشية بعد توقف بيع النفط والغاز نتيجة لتهديدات الحوثيين، إضافة إلى عجز مجلس القيادة الرئاسي عن ترتيب صفوفه لمواجهة التزاماته تجاه الناس.
ومن الواضح أن “الشرعية” لا تمارس إلا جزءاً ضئيلاً من سلطتها في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الميليشيات وتتوزع الولاءات داخلها إلى أطراف متنازعة.
وهكذا يتحمل المواطن البسيط وحده العجز المادي والأخلاقي الذي تبديه “الأطراف” وهو ما يجعل التوصل إلى تسويات في الملف الإنساني شديد الصعوبة، ولا يمكن لهم جميعاً الاختباء وراء مبررات غير إنسانية للتنصل من مسؤولياتهم إزاء تردي الأوضاع.
وفي الوقت الذي تتحكم فيه الميليشيات منفردة على الرقعة الجغرافية التي تسيطر عليها وتمارس داخلها المظالم والتعسف والقهر فإن الحكومة “الشرعية” غير قادرة على فرض أي من سلطاتها في المحافظات الجنوبية إذ تتنازعها مع المجلس الانتقالي الجنوبي الذي صار يلعب دوراً مزدوجاً مربكاً، فهو يشارك بفاعلية في الحكومة وفي الوقت ذاته يمارس دور المعارضة لها مما يتسبب في عرقلة التوصل إلى تفاهمات حول مجمل القضايا المرتبطة بالمساعي الإقليمية والدولية لإنهاء الحرب.
الواضح بعد تسع سنوات من الحرب غياب الرؤية الوطنية الجامعة لدى كل “الأطراف” الذين تخلوا عن مسؤولية تدهور الأوضاع الإنسانية وتحميلها الطرف الآخر.
وقد تتوهم الميليشيا أن استمرار سيطرتها على الرقعة الجغرافية الحالية مستدامة لكنه في الواقع مرتبط بضعف وبفساد وارتباك والصراع البيني داخل مربع الأطراف اليمنية الأخرى.
وعلى “الشرعية” الإسراع في تدارك إفلات مركز السلطة من “المجلس” وممارستها من دون ضوابط، وعليه التوقف عن استجداء الإقليم والمجتمع الدولي لمساندته ودعمه لأن ذلك لن يحقق له نجاحاً يؤهله ليصبح نداً يفرض شروطاً، وعليه قبل ذلك النظر بواقعية إلى ما يمتلكه من أوراق للضغط والمساومة.
*نقلا عن موقع “إندبندنت عربية”