أحمد الأصبحي يترجل عن حصانه
اعتاد الناس أن يتذكروا محاسن الآخرين وعظمتهم ومدى تأثيرهم بعد أن يرحلوا عن الحياة ، ويفتقدونهم بعد أن يرحلوا عن دنياهم ، وكم نحن بحاجة إلى التعبير عن محاسن الآخرين في حياتهم ، فلعل ذلك يخفف من غلواء الحياة أو من ألم المرض ، وها نحن نسمع عن برقيات العزاء تتوالى متحدثة عن مآثر الدكتور أحمد الأصبحي لتطريه بعد مماته ، وكم كان محتاجا إليها وهو يواجه المرض بقلبه الأبيض وضحكته البشوشة التي عهدناها منه طوال حياته ، فلعلها خففت عنه بعض آلامه ، أو ادخرت له بعض أيامه .
كان أحمد الأصبحي استثنائيا بين أقرانه ، فقد جمع بين الطب والسياسة والفكر والأدب ، استطاع أن يحجز لنفسه مقعدا في الصف الأول لحزب المؤتمر الشعبي العام وسط محيط عسكري وقبلي ومالي ، شق طريقه إلى الصفوف الأولى من أول يوم ، ليكون ضمن لجنة التأسيس ال٥١ مقررا للمؤتمر التأسيسي للحزب ورئيسا للجنة إعداد النظام الداخلي ، ثم رئيسا لفرع المؤتمر بمحافظة تعز ، ثم أمين سر اللجنة الدائمة في الحزب منذ العام ١٩٨٢ وحتى ١٩٩٣، ليتعرض لمحاولة اغتيال ، غادر بعدها إلى الأردن للعلاج واستقر فيها حتى العام ٢٠٠٢، عاد بعدها ليتقلد منصب الأمين العام المساعد للشئون السياسية والعلاقات الخارجية .
كان من البنائين ولم يكن يوما من المخربين أو المتزلفين والمتشبثين بالمناصب ، كان يؤمن بالتغيير وتداول المواقع ، كان وطنيا بفكره وتصرفاته ، فكان البوصلة داخل المؤتمر وفي لجنته الدائمة ومؤتمراته وفي عمله التنظيمي ، حريصا على توحيد الكلمة ، لذلك كان الرابط بين العسكر والقبيلة ورجال المال والحزبيين الذين جمعهم المؤتمر الشعبي العام ، فقد كان رمزا للعقل والهدوء والدهاء السياسي الذي كان كافيا ليجعله أمين سر المؤتمر بقبول الجميع .
علمته مهنة الطب أن يكون أكثر موضوعية من رفاقه الحزبيين الذين كانوا أكثر تعنتا في حزبيتهم ، سواء الذين بقوا داخل المؤتمر أو الذين غادروه لتأسيس أحزابهم الجديدة ، لعب دورا أساسيا في تحقيق الاستقرار داخل المؤتمر وساهم في حل الكثير من مشاكله ورفض أن يكون أداة في تمزيق الحزب ، خلافا لرفاقه الآخرين ، داهمه المرض ولم يسمح له أن يقوم بدوره لينقذ الحزب من ورطته الحالية ومقامرة بعض رفاقه الذين اتخذوا من الحزب سلما للوصول إلى مصالحهم الخاصة والرخيصة .
بعد كل هذا انتهت رحلة العمر وتوقف القلب النبيل النابض بالمحبة ، وحلقت الروح التي تميزت بإنسانيتها ، انتهت رحلة العمر التي توزعت أيامها في حب الوطن ، بعد أن تمكن من جعل كل الاتجاهات والجهات المتباينة تميل إليه ، فكان هو مركزها ورحاها ونقطة الجذب إليها ، خسارتنا ليس في رحيله ، فالكل يرحل ، إنما الإشكال في اللحظة التي أختار فيها الرحيل ، فرحيله في هذه الظروف المتشابكة والمعقدة التي يتعرض فيها الحزب للتفكيك والوطن إلى الخراب ، هي جوهر المشكلة .
وداعا أيها الرفيق ، ولعلى ما يخفف من وجعي أنك سألت عني قبل فترة من رحيلك وبعثت برسائلك عبر الواتس ، حزنت حين علمت بمرضك وتمنيت لك الشفاء العاجل ، لكن القدر أصر أن ترحل والخيل أبى إلا أن تترجل ، فزادت مرارتنا وتضاعفت أحزاننا ، فنم قرير العين ، فرفاقك يعلمون أنك كنت الموحد للمؤتمر وهم الذين فككوه ويعلمون أنهم حولوه إلى مجرد مكاسب ذاتية بعضهم ولوا وجوههم شطر الحوثي وبعضهم شطر الإمارات وآخرين شطر السعودية وجعلوا اليمن مثل غيرهم من قيادات الأحزاب وليمة لأغراب يحومون في سماء اليمن المدمى بفتن انتقامهم من بعضهم وجدران كراهيتهم .
لقد كان حري بك أن تغادر هذه الدار الفانية ، دون أن ترى عيناك رفاق لك وهم ينهشون بعضهم البعض ويتنافسون في تمجيد سادتهم والتحريض على بعضهم ، ولا أخفيك القول ، بأنهم مثلما غدروا بك ، أنت أيضا غدرت بأحبائك ، حين اخترت لحظة مغادرتك في غير أوانها ، في وقت لم يعد في مآقيهم دموع لكثرة ما حاق بهم من بؤس وخراب وما لحق بحزبهم من حيف وتخريب ، ومع ذلك نقول لك نم قرير العين ، فقد أديت ما عليك وكنت حاضرا في ذاكرة التاريخ الذي لم يقف إجلالا إلا لعدد محدود أنت واحدا منهم ، عزاؤنا لجميع أهلك ومحبيك ، إنا لله وإنا إليه راجعون .