السلامي يكتب عن عبد الرحمن بجاش
بيننا مسافة زمنية لا بأس بها، لكنه صديق لكل الأجيال.
قريب من اللحظة وناسها ووقائعها، ولا يمكنه إلا أن يكون كذلك، لا يبتعد ولا يتغاضى أو يتجاهل، ويظل يعلن انحيازه الدائم للبعد الإنساني في علاقاته وصلاته وحياته اليومية. تجده يعلو ويسمو فوق كل الأحداث التي يرى فيها غيره أنها مناسبة للفرز وإطلاق التوصيفات الجاهزة.
يلتمس الأعذار لتناقضات البشر، كما لو أنه روائي يتأمل شخوص رواية كتبت نفسها، ويركز على الجانب الطيب في كل من وما حوله، دون أن يعني ذلك تنازله عن قناعاته وكينونته التي تشكلت وجعلت منه حكيما، يعالج الأمور والمواقف بنظرة صمت فيها مزيج من التأمل، يتبعها بسلاح المبادرة التي لا يتخلى عنها، إذ يحفز في الآخرين ذلك المشترك الذي يوحدهم.
يتقصى أحوال الأسماء التي علقت بذاكرته، والوجوه التي حفرت ملامحها، والذكريات التي تجذرت معالمها، ويسعى بقلمه وسلوكه اليومي وراء مهمة إعادة بناء وترميم الصورة التي يحتفظ بها للآخرين من حوله.
في بداية التسعينيات وبالتحديد مارس 1993 حالفني الحظ بالمشاركة في الدورة التأهيلية (الأولى والأخيرة) للصحفيين الشباب، وكان الأستاذ عبد الرحمن بجاش من بين المحاضرين الذين خاطبوا المشاركين في تلك الدورة.
أيامها كان صديقنا الكبير (إن لم تخذلني الذاكرة) يعيش تجربة إصدار صحيفة “الشعاع” إذ كان صاحب امتيازها ورئيس تحريرها، ضمن موجة إصدارات وطفرة صحفية شهدتها اليمن، وفتحت خلالها وزارة الإعلام الباب أمام التراخيص، وأتذكر أنني أحصيت الصحف التي تصدر في تلك الفترة حيث بلغت 23 مطبوعة ما بين صحف يومية وأسبوعية وشهرية.
كان كل يوم من أيام الأسبوع يحفل بإصدارات صحفية وكانت زيارة الأكشاك مهمة يومية لمن لديه اهتمام بمتابعة الحراك السياسي والصحفي قبل أن تأتي حرب صيف 94 وتنسف المشهد بأكمله.
عرفت الأستاذ عبدالرحمن بجاش عن بعد من خلال قراءة مقالاته الصحفية ويومياته المعجونة بالحياة والناس والحكمة والتأملات والبحث عن إجابات لأسئلة تهم كل من يتوق لحياة أفضل لبلده.
وعندما زارنا في نقابة الصحفيين خلال تلك الدورة، في المقر القديم للنقابة بشارع الزراعة، أهدى للمشتركين كتابا من إصدارات منظمة الصحفيين العالمية، هيمن اللون الأخضر على غلاف ذلك الكتاب، لكن حضور الأستاذ كان أكثر هيمنة، وخاصة عند حديثه عن مواثيق الصحافة والجانب المهني، برصانة وثقة وخبرة، وبطابع أبوي حميم لا يخلو من المهابة ومن القرب في الوقت نفسه، فتشعر وكأنك تعرفه أو تود أن تعرفه وتستمع إليه أكثر.
بعدها كان لصديقنا الأنيق الأستاذ محمد القعود فضل كبير في حضور أسماء عدد كبير من أبناء جيلي في صفحات جريدة الثورة وملحقها الثقافي وصفحة الثقافة اليومية، وهناك أثناء زياراتنا المتقطعة للصحيفة ستكون لكل شاعر وناقد وصحافي شاب قصة وحكاية مع الأستاذ عبدالرحمن بجاش، الذي تولى إدارة تحرير صحيفة الثورة في البداية، أو كأنه عاد من جديد للصحيفة، لا أتذكر ولا أعرف المسار المهني له، لأن حضوره يتفوق على أي موقع أو إدارة يتولاها، وحتى اليوم ستجد الشباب (الذين كانوا شبابا آنذاك) يتحدثون عن لطفه وتواضعه بل ومبادرته في إبداء الإعجاب بكتاباتهم، إذ يكسر الحواجز ويبدأ كعادته بنسج المودة مع من حوله، وكان لي نصيب من تلك التحايا التي بدلا من أن يبادر أحدنا بها كان الأستاذ هو المبادر، وأظنه لا يزال يمد يده مصافحا ومشجعا بفرح لكل اسم جديد في ساحة الكتابة.
بنظرة سريعة على كتابته ومقالاته القديمة والجديدة، تدرك مدى حرصه على تضمين قيم الوفاء للبشر والأمكنة، ومدى إصراره على أن يبعث رسائل يمزج فيها بين خبرة الصحافي المخضرم والإنسان المنتمي لمجتمعه الواسع بكل مكوناته، وبين مسحة روائية سردية تجعل من الكتابة بالنسبة له علاجاً للروح يمتد أثره إلى وعي القارئ، ولا سيما ونحن في اليمن نمر حاليا بمرحلة يبرز فيها الضياع الشامل على كافة المستويات، ما يجعل من كل كتابة حميمية متشبثة بالذاكرة النقية تندرج ضمن مقاومة البؤس والنضال ضد الضياع والتفكك الخبيث الذي يغزو النفوس ويدمرها من الداخل.
بعد أن دخلت الصحافة اليمنية عمليا في حالة موت سريري مؤقت، اتجه الأستاذ عبدالرحمن بجاش إلى المنصات المتاحة، من صفحته على فيس بوك، إلى بعض المواقع الإلكترونية، والأهم من ذلك أن المكتبة اليمنية كسبت إصدارات جديدة بقلمه، فيها عصارة تجربته وما اختزنته ذاكرته حول الأمكنة والأحداث والوجوه، وهذه دعوة لمن أراد أن يعرف عوالم بجاش أن يبحث عن كتابه “حافة اسحاق” و كتاب “لغلغي في صنعاء”.
وأترك الحديث لمن أراد أن يعلق أو يسجل شهادته من الأصدقاء ..