منبر حر لكل اليمنيين

28

تكتسب الزيارة التي يقوم بها رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني إلى حضرموت أهمية بالغة لأنها الأولى له داخل البلاد بعد 16 شهراً من تشكيل المجلس في التاسع من أبريل (نيسان) 2022، وليس هذا هو السبب الأوحد لأهميتها، لكن أيضاً لأنها تأتي بعد انعقاد الجمعية الوطنية للمجلس الانتقالي نهاية شهر مايو (أيار) الماضي في مدينة المكلا، وما صاحبها من جدل شديد حول مغزى مكان الاجتماع لرمزية محافظة حضرموت على الخريطة السياسية والاجتماعية لليمن الجنوبي قبل الوحدة، وفي اليمن الموحد بعدها.

في الواقع كان الهدف الحقيقي من إصرار “الانتقالي” على عقد الاجتماع في حضرموت هو إظهار تمدد نفوذه على كامل المساحة الجغرافية الجنوبية، مما شكل استفزازاً وقلقاً لدى خصومه ومنافسيه الجنوبيين بخاصة، وجعلهم يحتشدون لتشكيل تجمع يواجه أو على أقدر تقدير يكبح التوسع الذي يريده “الانتقالي”، كما مثل الأمر تخوفاً عند القوى الشمالية من احتمال بسط نفوذه السياسي في منطقة تمثل أهمية حيوية للرياض وأساساً في الصراع على استمرار الوحدة اليمنية.

لم يمر شهر على اجتماع المكلا حتى تسارعت الخطوات إلى تأسيس كيان حضرمي يواجه “الانتقالي”، تم تتويجه بعقد لقاء في الرياض استمر قرابة الشهر وشارك فيه عدد من الشخصيات الحضرمية بدعوة من الحكومة السعودية، ونتج منه تشكيل ما يعرف بـ “المجلس الوطني الحضرمي” حضر جلسته الأخيرة رئيس مجلس القيادة الرئاسي وسفير المملكة لدى اليمن محمد آل جابر، مما يشير بجلاء إلى الأهمية التي يكتسبها اللقاء إقليمياً في هذه المرحلة، وصدر عنه بيان ختامي تحدث عن قضايا شديدة المحلية.

وما ليس خافياً هو أن اللقاء في الرياض كان، كما ذكرت، بمثابة رد فعل سريع على انعقاد الجمعية الوطنية لـ “الانتقالي”، وهذا يستدعي إلى الذاكرة الحساسيات المناطقية في جنوب اليمن والتي لا تختلف عنها في الشمال، وكانت معالجتها تجري في الماضي بتدخل الدولة باللين أحياناً وبالعنف أحياناً أخرى.

والملمح الثاني للقاء الرياض الذي شارك فيه ممثلو تيارات حضرمية كثيرة هو الإصرار والحديث غير الدقيق عن تهميش حضرموت في المعادلة السياسية، وذلك مناف للتاريخ والواقع، ويكفي التذكير برجالات حضرموت الذي كانوا في صدارة المشهد السياسي وأثروا فيه بقوة منذ عقود، بداية بفيصل بن شملان وفرج بن غانم وعلي سالم البيض وصالح منصر السييلي وعبدالقادر باجمال وحيدر العطاس وصالح بن حسينون، وغيرهم من القياديين الذين تركوا أثراً مهماً في الجنوب قبل الوحدة وفي اليمن الواحد بعد الـ 22 من مايو عام 1990.

يدرك الجميع أن حضرموت كانت ولا تزال تمثل أهمية سياسية واجتماعية واقتصادية، وصحيح أنها تتميز بواقع ثقافي ثري وتراث فريد، لكن التاريخ لا يقول أبداً إن تهميشاً متعمداً قد مورس ضد أبنائها، والواقع يشير إلى أن غالبيتهم لا تشغلهم السياسة كثيراً، بل ينغمسون في الثقافة والآداب والأعمال التجارية التي تفوق كثير منهم فيها على أقرانهم في الإقليم والعالم وبقية المناطق اليمنية شمالاً وجنوباً، وقلة منهم استهواهم الانضمام إلى المؤسستين العسكرية والأمنية.

ولعله من الباكر الحكم على محصلة الصراع الدائر في حضرموت، ولكنه سيلقي ظلالاً من القلق والتوتر على مجمل الأوضاع في الجنوب بالذات، وتالياً على مستقبل الانتقال إلى مسار مفاوضات السلام المنتظرة برمتها، ولا يجوز استنزاف الجهد في محاولات لجم “الانتقالي” من طريق شراء الولاءات والتذاكي، وهي السياسة التي مارسها الرئيس السابق عبدربه منصور هادي وكانت نتيجتها ما يواجه اليوم مجمل الموقف السياسي الجنوبي بخاصة، بل المطلوب قيام مجلس القيادة الرئاسي بمناقشة صريحة لكل ما يدور في المحافظات الجنوبية كلها وغيرها بدلاً من اللجوء إلى الرياض عند كل أزمة وتأزيم للأوضاع، والإنفاق على الاستقطاب وإطلاق الوعود الوهمية.

وفي الوقت نفسه على “الانتقالي” أن يعي اليوم ما كررته كثيراً بأنه لا يمثل لوحده الجنوب، وأن يفهم أن ادعاء احتكاره للشارع سيصيبه في مقتل، وأن يعلم أنه مسؤول وشريك في عرقلة وتباطؤ كل الإصلاحات التي تحتاجها البنية التحتية وخدمات الناس الأساس، لأنه موجود في الحكومة وعليه في هذه الحال إما أن يتحمل المسؤولية التشاركية أو يترك الحكومة، علماً بأن شبهات الفساد والاستفادة الشخصية من الوظيفة العامة تنال بعضاً من ممثليه في السلطة.

إن انعكاسات ما تشهده حضرموت من تطورات سيؤثر سلباً في إمكان توحيد صف “الشرعية” وبالذات داخل مجلس القيادة الرئاسي الذي يضم ثلاثة من قيادات “الانتقالي”، وسيكون من السذاجة تقبل الحديث الممل عن تماسك المجلس وتوافق أعضائه، لأن الحقيقة أنه صار منشقاً وبلا محددات معلنة لنشاطه ولا توجهات واضحة وموحدة تجاه أية قضية وطنية، فظهر عاجزاً عن منح الناس مجرد الانطباع عن قدرته على وقف التدهور في المجالات الإنسانية والخدمية والأمنية كافة.

وأظهر قرار رئيس المجلس رشاد العليمي منفرداً منح حضرموت الحق في إدارة مؤسساتها التنفيذية والأمنية كافة، ومعالجة قضاياها بما يشبه الحكم الذاتي من دون العودة للحكومة ومجلس النواب، كما لو أنه تحد للمجلس الانتقالي ومكافأة لمن أسسوا المجلس الوطني لحضرموت، ولكن أحداً لم يسمع أن دراسة معمقة لمثل هذا التوجه قد تمت مع الإشارة إلى أن مثل هذه الأنظمة تحتاج إلى مركز قرار يتابع ويحاسب، وهو ما تفتقده الإدارة الحالية، وليس فقط إطلاق العنان لها من دون قيود، والأخطر أن مثل هذا القرار هو ما كان محافظ عدن نفسه قد أقره ثم تراجع عنه بضغوط محلية وإقليمية، وهذا يفتح الباب أمام مأرب والمهرة وسقطرى وغيرها للمطالبة بالحقوق نفسها.

إن ممارسة السياسة بالفهلوة والتسطيح لا تساعد “المجلس” في الحصول على مشروعية وطنية تعاونه في تجاوز الصعوبات والأزمات، بل إنها أقصر السبل إلى نزع ستار الشرعية عن الحكم، بخاصة إذا كان غير مدرك ويعيش بعيداً من مشاغل الناس الحقيقية.

ومن هنا يتضح أن مجلس القيادة الرئاسي يواجه أزمة ليست صامتة، بل إن ارتداداتها ستكون لها آثار سلبية للغاية لن يقوى على مواجهتها، إذ إن أداءه الفردي والجماعي ليس مقنعاً حتى الآن، ومن غير المحتمل تمكنه من تجاوز العثرات التي نتجت من عدم خوضه في القضايا الوطنية، ناهيك عن حسمها.

ل اندبندنت عربية.

تعليقات