عمرو دياب في أصواته المُتعددة… أغنية مستمرة منذ أربعين عاماً
وضع الفنان المصري عمرو دياب أولى خطواته في عالم الغناء بشكل دراماتيكي. عندما كان هاني شنودة في زيارة لمسقط رأسه بور سعيد، استغل دياب فرصته. فعلياً، الفرص بعيدة المنال بالنسبة لشاب يعيش بعيداً عن القاهرة، مركز الغناء المصري، وأسرته متواضعة مادياً. وهما مسألتان ظل يتحدث عنهما في لقاءاته بعد اكتسابه شهرة. بينما كان شنودة يستعد في ليلته الأخيرة لمغادرة مدينة القنال، فوجئ بشاب نحيل يدقّ باب غرفته في الفندق. “عايز إيه؟” سأله، وبسرعة جاء رده: “عايز أغني”. كان ذلك الشاب الخجول هو عمرو دياب الذي فتح لنفسه طريقاً من باب غرفة فندق نحو الغناء.
كان لشنودة الدور الأبرز في تقديم عمرو دياب إلى الغناء، وإصدار أول ألبوماته “يا طريق”، قبل أربعين عاماً، في سبتمبر/أيلول 1983. لحّن له أربع أغانٍ، أي نصف الألبوم. لكن، مهما كان مقدار تفاؤله بمستقبله، لم يتوقع أن يصبح أيقونة في موسيقى البوب العربي، وملكها من دون منازع.
لم تكن طريق صاحب “تملي معاك” سهلة؛ إذ واجه عثرات جعلته يعيد النظر في القصة التي سيكتبها غناءً. وبعد مرور أربعين عاماً على أول ظهور له، نستعيد ملامح تجربته وتحولاتها.
بدأ عمرو دياب (1961) مسيرته خلال فترة الثمانينيات العصيبة، بينما كان مسرح الغناء يعاني فراغاً في مصر منذ رحيل عبد الحليم حافظ. وتضاربت الآراء حول تسمية وريثه، لكن جيلاً بأكمله سيملأ ذلك الفراغ لاحقاً خلال الثمانينيات. كانت صناعة الموسيقى في مصر متعطشة لاستيعاب تجارب موسيقية جديدة ومختلفة، ستبني لاحقاً قطيعة أسلوبية مع الأنماط القديمة. وكان دياب يدرك طبيعة المرحلة نفسها واختلافها، التي تعني تجربته الخاصة، فتمسك بأن يكون صدى لروح جيله.
برزت ظاهرتان غنائيتان في مطلع الثمانينيات، حررتا جيلاً بأكمله، إذ حقق محمد منير نجاحاً كبيراً في ثالث ألبوماته “شبابيك” عام 1981، تبعه نجاح مدوٍّ لحميد الشاعري في ألبومه الثاني “رحيل” عام 1984. أما دياب، فنجاحه سينتظر مع صدور خامس ألبوماته، “ميال”.
وخلال وجوده على الهامش، عمل دياب على هضم روح عصره، سواء بالاستفادة من تجربتي منير والشاعري. فاستعار من الفولكلور النوبي والليبي، كثيمتي نجاح، جالباً معه فولكلور مسقط رأسه بور سعيد، في أغنية “بتغني لمين يا حمام”. وقبل ذلك، فرض شخصيته باكراً، مبتعداً عن تعثر أول ألبوماته الذي طغت عليه رؤية شنودة بأسلوبه الناعم. فلم يعد على الإطلاق ليُغني من ألحان مكتشفه، واتجه في ألبوماته التالية نحو حدة الرتم وحيويته، أي الأسلوب الملائم لجيله وتجربته. كان يمتاز بخصلة ساعدته على النجاح في الفصل بين الشخصي والمهني، ليعتمد على رؤيته وقراءته لتغير المشهد الموسيقي ومتطلباته. ساهمت أيضاً دراسته الأكاديمية للموسيقى في أن يلعب لاحقاً دور المنتج الفني، خلافاً لمساهمته كمُلحن لبعض أغانيه.
ظهر عمرو دياب الملحن منذ ثالث ألبوماته، “هلا هلا”، عام 1986. وعلى الرغم من النجاح النسبي للألبوم، فأهميته تكمن باتضاح هويته الغنائية التي ستنضج وتتطور. فنجده يستعير لفظ “هلا” (الخليجي والشامي). كذلك استعار جملة لحنية من الغناء الخليجي في أغنية “أنا راحل” من “أنا واقف على بابكم”. كان البحث عن عناصر لحنية جديدة من هويات مختلفة جزءاً من مرحلة موسيقية تتطلع لكسر أساليبها الراسخة. هذا ما سنلمسه لاحقاً، إذ ستعرف أغنية “علم قلبي” عام 2003 مزجاً إيقاعياً بين الرومبا الخليجي والآر آند بي والبوب.
عام 1988، تحقق الانفجار للموجة الموسيقية الجديدة، لتظهر “لولاكي” كفقاعة هزت السوق. تزامن معها انفجار نجومية عمرو دياب في ألبوم “ميال”. كان أول تعامل له مع ظاهرة الثمانينيات والتسعينيات حميد الشاعري كموزع موسيقي الذي تقاسم ألبوم “ميال” مع فتحي سلامة. وعندما لم يعد يجد لدى الشاعري جديداً يقدمه سينفصل عنه نهاية التسعينيات، حتى إذا كان أحد أعمدة نجاحه خلال أكثر من عقد.
لم يغرق صاحب “وحشتيني” في إغواء الشهرة، وظل الخوف يرافقه دائماً مع كل نجاح، خوف من أن يصعد إلى المسرح ولا يرى جمهوراً مقابلاً له. ولعل ذلك كان حافزاً لمثابرته الدائمة، والاهتمام بأدق التفاصيل. فكان دائماً يقترح ويعيد النظر. وعلى الرغم من أن الموزعين الموسيقيين يفضلون العمل معه بما يعزز ذلك من نجاحهم، فإنهم لا يخفون أنه مُتطلب ويُرهقهم. وفي هذا السياق، يقول الموزع عادل حقي إن عمرو دياب مواكب للموسيقى العالمية، ويُريد لأعماله الخروج بأعلى مستوى. لذا، يمكن معرفة عوامل مهمة في نجاحه وبقائه على القمة طوال تلك الفترة.
ودائماً ما تطلع دياب للمزيد، فبعد أن أصبح النجم الأول في الساحة الغنائية العربية ظل يتحدث في كل مناسبة خلال التسعينيات عن تطلعه إلى العالمية. واللافت أنه في السعي وراء العالمية راهن دائماً على هويته الموسيقية؛ فاختياراته للأساليب الموسيقية تقترح دائماً انسجاماً بين ثقافات موسيقية مختلفة، تتماهى مع شخصيته الغنائية، ليبحث عن موسيقى الجيبسي الإسبانية كمساحة لانسجام عناصر شرقية وغربية تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط. ودائماً يضع في اعتباره وجود قاعدة متناغمة بين ما يستسيغه الجمهور العربي وإمكانية الانتشار حول العالم، أي أن عمله كصاحب رؤية أو منتج فني يبقى مساهماً في الإشراف على كل ملامح أعماله. في أغنية “ويلوموني” عام 1994، بتوزيع حميد الشاعري، لم تتبلور وتنضج الفكرة كما يجب. لاحقاً، سيعود دياب لتكرار التجربة مع الشاعري بصورة أكثر نضجاً وتوهجاً في أغنية “نور العين” عام 1997، لتجمع بين الموسيقى الشرقية والفلامنكو بروحه الغجرية.
كان واضحاً أن شركات الإنتاج الموسيقي زادت إنفاقها على الأعمال الغنائية. كما ارتفعت كفاءة تقنيات الإنتاج والموسيقيين في تحسين الأسلوب الموسيقي، بما يُلائم المعايير العالمية. وتطلع عمرو دياب إلى أن يشمل التنفيذ الموسيقي عالي المستوى كل ألبومه، من دون اقتصار معيار العالمية على أغنية واحدة. حاول ذلك في ألبوم “قمرين” عام 1999؛ فتعاون مع كل من الشاب خالد الجزائري، واليونانية أنجيلا. حقق الألبوم نجاحاً مذهلاً، وانتشرت “قمرين”، بلحنها، خارج العالم العربي. لكن تلك التجربة ستنضج في ألبومه التالي “تملي معاك” عام 2000. فجاء التنفيذ الموسيقي على أعلى مستوى وقتها، وحضرت للمرة الأولى الإيقاعات المُبرمجة.
يشكل هذا الألبوم منعطفاً في مسيرة عمرو دياب، بما شهده من تحول في الشكل الموسيقي واللحني ومواكبته السياق العالمي. صحيح أنه اعتمد في إنتاجاته تلك على أكثر من جيل من الموسيقيين والملحنين، لكن دوره كمنتج فني فرض نفسه أيضاً. في “نور العين” تمتزج ثلاث ثقافات موسيقية بانسجام؛ الإيقاع اللاتيني المصحوب بكوردات الغيتار الإسباني، بينما موسيقى الأكورديون تنطلق بدءاً بخلايا لحنية غربية، لتنتقل إلى روح شرقية تظهر بوضوح في الخلية الأخيرة التي تسبق الغناء. كما أنه استعار في “قمرين” أجواء أغنية Tu Sonrisa لإلفيس كريسبو، لكنها استعارة اقتصرت على الشكل الموسيقي، أي تقسيم الخلايا اللحنية، إنما بلحن مختلف. كذلك لم تغره الأبواق المرتفعة، المعروفة في الموسيقى اللاتينية، معتمداً أصوات موسيقية تلائم روح البوب الشرقي. الأمر نفسه في “تملي معاك”؛ إذ حضرت ثلاث ثقافات موسيقية منسجمة، الشرقية والجيبسي الإسباني، وأيضاً اللاتينية. هكذا، نلاحظ إيقاع البوب لاتين، والتقسيم المستعار من روح الموسيقى الكاريبية، وموسيقى الجيبسي سواء بتقاسيم الغيتار الإسباني أو بالآهات.
سيكون دائماً صاحب أسبقية في جلب أشكال إيقاعية جديدة وأساليب تتدخل فيها رؤيته. لكنه لا يتوقف عند تلك الحدود، فيراهن على تنويع أشكال المزج والأساليب المستخدمة. سيغير دياب استراتيجيته في “حبيبي ولا على باله” عام 2001، متخذاً خطوة أكثر جرأة، بمزج أشكال متباعدة. فلحن الأغنية شرقي كلاسيكي، يجاوره الراب، وأيضاً موسيقى التكنو بأسلوب البوب الغربي، يعقبها مُباشرة صولو كمان شرقي، كان عمرو دياب اقترح استعارتها من أغاني أم كلثوم، تتبعها إيقاعات بلدية وغناء مصحوب بمنمنمات شرقية يؤكدها صوت الناي والقانون ونقرات البتزيكاتو على الكمنجات، كما في الأسلوب الكلاسيكي. وهذا هو دوره المستمر كمنتج فني أو صاحب رؤية.
في ألبومه اللاحق “علم قلبي” عام 2003 سيذهب بعيداً في الجرأة عبر اختيار الأساليب الموسيقية غير المألوفة لجمهوره. وربما كان ذلك أحد أسباب عدم تحقيقه نفس مبيعات ألبوماته السابقة. لكن لا ننسى المزج الجريء أيضاً بين إيقاع الآر آند بي مع الوتريات الشرقية في أغنية “أنا عايش”، وذلك التنوع اللافت في الأغاني بالاعتماد على موزعين شباب، هما فهد وهاني يعقوب. يُعد ذلك الألبوم نقلة نوعية في مسيرة دياب وصيغة البوب الشرقي، مفتتحاً حقبة جديدة في صناعة الموسيقى العربية. ويتزامن أيضاً مع بداية حقبة وظهور جيل من الفنانين والموسيقيين.
لكنه سينفصل تدريجياً عن منافسيه من جيل الثمانينيات والتسعينيات، ويتنافس مع جيل الألفية مثل محمد حماقي وتامر حسني، متمسكاً بالقمة. كما أنه انفصل عن منتجه محسن جابر وتعاقد مع شركة روتانا، في ألبوم “ليلي نهاري” عام 2004. لن يعود لتكرار تجربة “علم قلبي”، لكنه سيضعها معياراً في الأسلوب الموسيقي العام، أي توسيع عملية المزج بين الأشكال الموسيقية، وهو ما يفرضه المشهد الموسيقي حول العالم. وسيستمر في المواكبة وإدخال أساليب موسيقية جديدة. فبعد اللاتين بوب والتشاتشاتشا والجيبسي والبالاد والسلو، سيعزز ارتباطه بالمشهد الموسيقي العالمي، بتضمين أرشيفه أساليب جديدة، مثل الريغيتون والدانسهول، وستحضر ثقافات تركية ويونانية. ودائماً ما تكون هناك مساحة انسجام مع شخصيته وتضمين تلك الأساليب. سيقدم “وحكايتك إيه” من ألبوم “كمل كلامك” عام 2005 بأسلوب شرقي على النمط التركي. في هذا الألبوم عودة إلى المزج المُركب والغزير كما في “علم قلبي”.
لم يقتصر انفتاحه على الأساليب الموسيقية العالمية والشرقية، إنما كان دائماً بوابة لظهور ملحنين وموسيقيين شباب. فغنى أول ألحان محمد رحيم والأخير في التاسعة عشرة من عمره، تبعه غناؤه لعمرو مصطفى حين كان في الواحدة والعشرين. الاثنان أصبحا أبرز ملحني جيل الألفية. كما انفتح على موزعين شباب؛ فبعد حقبة حميد الشاعري وطارق مدكور، يظهر فهد وهاني يعقوب ونادر حمدي. ومع حسن شافعي في ألبوم “الليلة دي” عام 2007 تعرف موسيقى البوب العربية للمرة الأولى موسيقى الهاوس في “نقول إيه”. لكنه أيضاً يعتمدها بخلاف الأسلوب الموسيقي الغربي، وفق غناء لا يبتعد عن شخصيته وهويته.
وخلال تلك المسيرة المفعمة بالنجاح المتواصل، كان عمرو دياب يضع دائماً مسيرته فوق كل اعتبار، تتغير الأسماء بجانبه، لكن نجاحه يستمر. لكن غناءه أيضاً لم يقتصر على هوية تستمر في التحولات من دون العودة إلى الجذور. فدائماً يربطها بتاريخه الموسيقي، ليعود بألحان تعيد جمهوره إلى أجواء أغانيه في الثمانينيات والتسعينيات، ويعود إلى بداية الألفية أيضاً.
وكثيراً ما يلعب هو نفسه دور المُلحن، وتحديداً على مقامي البياتي والكُرد، أي استعادة روح ألحان خليل مصطفى. مثلاً، يذكرنا لحنه “ضحكت” بالأفيه أو السكتة بين غناء السؤال والجواب، كما في أغنيتي “خالصين” و”ميال”. وربما يكون ذلك نوعاً من الحنين، فنجده يعاود حضوره كمُلحن لأغلب أغاني ألبوماته منذ 2011 حتى 2014، بينما يعود إلى أبرز ملحني بداياته، خليل مصطفى، في ألبومي “الليلة” عام 2013 و”شفت الأيام” عام 2014. ولعل “سبت فراغ كبير” أبرز ما لحنه مصطفى في الألبومين، لتأتي بجمل قصيرة ونمط شرقي على مقام البيات، لكن عمرو دياب كان مدركاً للفوارق بين المرحلتين، ليبني جسراً بينهما بالأسلوب الموسيقي الحديث، كاستخدام موسيقى الداونتيمبو مع استخدام الآر آند بي والهيب هوب مع أصوات شيمس (Chimes)، بخلاف مؤثرات الـAmbient والـReverb والـDelay. لاحقاً، في “جنب حبيبي” عام 2017، سيمزج المقسوم الشرقي مع موسيقى الهاوس. وقبلها الريغيتون مع الفولكلور العراقي في “لفتها بلاد”.
سنلاحظ مسيرة ثرية بالتجريب على الأشكال الموسيقية، تنويعها واستعادتها. وفي أغنية “نغمة الحرمان” للملحن محمد يحيى، عام 2017، نجد محاكاة لثيمة لحنية من أغاني التسعينيات بطريقة ساخرة. هي أيضاً تُجسد الطبيعة الساخرة لكلماتها. وفي أغنية “عم الطبيب” عام 2020، يعود عمرو دياب نفسه كملحن، لاستعادة أجواء ألحان سيد درويش. كما أنه يستعيد تقاطع مع روح لحنه “رصيف نمرة خمسة” في فيلم “آيس كريم في جليم” عام 1994. سنجده أيضاً في فترة يتخلّى عن المقسوم الذي بدأه مع ألبوم “خالصين”، وكان وراء نجاحه في “ميال” خلال مطلع الألفية. ودائماً هناك مراحل يحضر حوله ملحنون وموزعون تتغير أسماؤهم، لكن نجاحه لا يتقادم ويبقى علامة راسخة في صناعة الموسيقى العربية.
“العربي الجديد”