منبر حر لكل اليمنيين

الانتصار لكبير عمال النظافة

56

كان كبير عمال النظافة يبكي وحيدًا، عندما مررت بجواره في أحد ممرات أقسام الرقود بمستشفى حكومي كبير، مستشفى تديره منظمة أطباء بلا حدود السويسرية في مدينة القـ ـاعدة بمحافظة إب، كان العامل الكبير في السن يبكي بمفرده وقهره وخوفه، كان يحاول التماسك بينما يخفي دموعه ووجهه عن الأخرين، كنت آنذاك في بداية معرفتي به بعد التحاقي بالعمل هناك مع أطباء بلا حدود، في البدء توقفت بجواره لمواساته، واضعًا يدي على كتفته لأقول له: ماذا بك؟ لماذا تبكي؟ أنت رجل كبير والبكاء يبعث الشفقة عليك من الأخرين! لماذا تبكي وأنت كبير العمال المتواجدين هنا؟ عندها تماسك قليلًا، ثم حاول الرد والحديث إليّ، قليلًا قليلًا حتى قال:

مشرفتي اليمنية تريد فصلي من العمل مع المنظمة في هذا المستشفى، دائمًا تفتري عليّ، وتنذرني، وتشكتي بي إداريًا بلا أسباب، لقد كنت قبل أشهر عاملًا بسيطًا، ثم أعجبت بي قائدة الفريق الطبي الألمانية، ودعمتني وجعلتني كبير عمال النظافة، وأنا الأن أعمل بكل طاقتي منذ عشرة أشهر، وتقييماتي عالية، وتوصياتي مرتفعة، ولكن، وبعد أن سافرت المشرفة الألمانية، قاموا بتوظيف فتاة مترجمة لتكون مشرفة علينا، ومن يومها وهي تتحرش بي، وتنذرني وتخترع لي التحذيرات الرسمية، والإتهامات المفبركة، أنا أعرف أنها تريد فصلي من العمل بلا مبررات، ربما لأن شكلي قبيح، أو لأنني كبير جدًا في العمر، أو لأن ملامحي صارت مهترئة، وربما لا أدري لماذا، لأتفاجئ اليوم بإنذار أخير من مكتب الموارد البشرية، يطلبون فيه مني توضيح بعض تصرفاتي التي تشتكي بها المشرفة الجديدة، أنا الأن مدرك بأنهم سيتخلصون مني..

كان يتكلم ودموعه لا تتوقف عن النزول، رجل يبكي بحرقة الخوف والعجز، رجل بسيط سيفقد وظيفته وراتبه الذي يتجاوز 700 دولار شهريًا، كان هذا في العام 2016، يومها سألته: وهل أنت فعلًا مقصر في عملك؟! قال: أقسم بالله أنني أعمل أكثر بكثير مما هو عليّ، وأشارك في التنظيف مع عمالي، وأصل الدوام قبل ساعه من دوامنا الرسمي، هكذا كل يوم أصحوا في بيتي بالقرية قبل الفجر، لأصل إلى هنا في السابعة تمامًا، لأتفقد المكان وأبدء بتنظيفه قبل وصول العمال، ليس لشيء فقط لأنني مخلص في عملي وأريزه بشدة، لأن لدي الكثير من الأبناء، والكثير من البطون لأطعمها وأرعاها، لقد وجدت هذا العمل بالصدفة، بعد أعوام من بحثي عن العمل، بعد سنوات البطالة التي مررنا بها في ثنايا الحـ ـرب والخذلان، كان ذلك بأحد الأيام قبل أشهر، عندما دخلت المستشفى مصادفة لأسأل عن عمل، لأجد سيدة ألمانية تقول لي تعال سنجري معك مقابلة مستعجلة للتوظيف، سنجريها سريعًا لأننا بدأنا إدارة هذا المستشفى قبل أيام فقط، ونريد الكثير من العمال ليساعدوننا، وسنوظفكم لنختبركم ثم نوقع معكم أذا أثبتم التزامكم، وبالفعل، وظفتني وجربتني ووقعت معي، ثم رفعتني لمنصب كبير العمال خلال ثمانية أشهر فقط، ومن يومها وأنا أعمل بروحي وجسدي وأحلامي، ولكن المترجمة اليمنية تريد طردي بأيّ وسيلة، أنا أعرف هذا جيدًا..

بعدها سألته. هل تثق بعملك، وانجازك، وكفائتك؟! قال نعم، وهل أنت فعلًا لم ترتكب أيّ تقصير لتشتكي بك المشرفة؟! قال: نعم، هي تكرهني بلا أسباب وتريد طردي من هذا العمل بلا أسباب، ربما لأن لديها غيري! ربما لديها.. عندها قلت له: بما إنك واثق من كل شيء، وبريء من افتراءت المترجمة، سأساعدك وأكتب لك الرد بطريقة الصادقين معك، سأكتبه بالعربية، وأترجمه للإنجليزية، لتقدمه أنت للأجانب، لأن هذا نظامهم هنا.. استفسار، يليه توضيح، يليه اجتماع الطرفين، يليه القرار، إما بالإنذار، أو الإعتذار.. هيا لنجلس معًا بأي مكان لنناقش ما كتبوه لك في ورقة الإنذار الأخير، بعدها ستقول لي كل ححجك ودفاعك الشخصي، وسأتكفل أنا بالرد عليها، وسترى من منا سيثبت نفسه، نحن أم المترجمة المتربصة بك.

في ذلك اليوم أخذت منه كافة التفاصيل، مع كامل شروحات حكايته وخوفه واضطرابه، مع مشاعره وملامحه وعجزه البشري تجاه مشرفة تريد النيّل منه، كتبت كل شيء، وغادرت بعد الدوام إلى غرفتي القريبة، وبدأت بالكتابه له، كتبت له ملامح الافتراءات عليه وردوده المطلقة، مع أثارها ونواتجها، مع بداياته وكفائته واخلاصه العظيم، مع صباحاته ونشاطاته وتفانيه الطويل، كتبت له كل شيء كملحمة إنسانية تقاوم الظلم لتنتصر على الشرور المحفورة في قلوب المتربصين، كتبتها بقلبي وروحي ومشاعري المتحدية لطغيان البشر المتعالين، طغيان الشرور الدفينة ونفوس الأشخاص اللعينة، تجاه البشر المساكين.. كتبتها ثم راجعتها، ثم ترجمتها، ثم أرسلتها لأحد الأصدقاء المترجمين، كي يترجمها ويعيد تماسكها اللغوي، وبالفعل ساعدنا خلال وقت وجيز، لتنقضي تلك الليلة برمتها حول رسالة الرد والإنتصار، ولم أنم بعدها حتى أعدت ترتيبها ووضعها بفلاش جاهز للطباعة.

في صباح اليوم التالي، كان كبير عمال النظافة، ينتظرني عند بوابة المكاتب الإدارية، وصلت مبكرًا ومبتسمًا إليه، وفي يدي ملفه الخاص، قدمته إليه وقلت لك: كن واثقًا بأنك ستنتصر، لا عليك من أيّ شيء، وأدخل الأن وقدم هذا الظرف لمديرة الإتش أر، المديرة الفرنسية التي تنتظره منك، أخذها مني، ودخل سريعًا وأعطاها للمديرة، ثم انصرف، وذهب ليباشر عمله في المستشفى، وما إن مضت أربع ساعات فقط، حتى رن هاتفه بصوت يقول له: لديك إجتماع طارئ في هذه اللحظة، تعال لمكتب الموارد البشرية، سيجتمع بك كلًا من المديرة الفرنسة، وقائدة الفريق الطبي، الطبيبة الكندية، ومشرف اللوجستك الألماني، مع مترجم خاص بك، مع مشرفتك التي اشتكت بك. .

ذهبوا للإجتماع به، وللإستماع للطرفين، وأنا أنتظرهم في أقسام المستشفى، وبعد ساعتين من الإجتماع، بذات الممر من الذي كان يبكي فيه، رأيته يجري مسرعًا إليّ بينما يبتسم ويضحك، قليلًا قليلًا ليقول لي ما جرى معه ببضعة كلمات فقط، ثم انفجر بعدها باكيًا من فرحته، قال لي: قرأوا كل شيء، وسألوا عن كل شيء، وأجبتهم بكل شيء، ثم سألوا المشرفة، وحققوا معها كثيرًا وكثيرًا، حتى اعترفت أخيرًا بأنها مضحوك عليها من أخرين، وبأنها تعتذر لي عما صنعته لي، يومها قاموا جميعًا واعتذروا لي ثم اعتذروا لي، ثم كتبوا رسالة اعتذار رسمية، مع عبارات متقدمة تثني عليّ وتعتذر مني وتطلب السماح عن كل ما صنعوه بي، ثم كتبوا ورقة أخرى كإنذار للمشرفة اليمنبة عن افترائاتها وافعالها وعدم كفائتها في ٱدارة الأخرين!

كان كبير عمال النظافة في ذلك الوقت يقبل رأسي، ويشكرني ويقول لي: كيف فعلت هذا، ماذا كتبت لهم، لقد سألوني جميعًا عن الشخص الذي كتب لي عريضة الرد، من هذا المحامي الذي كتبك كإنسان، ووصفك كخيال، وقدمك بلا تكلف، لقد صارت رسالتك وكلمتك محفورة في قلوبنا عن ظلمنا وتبجحنا وتكلفنا عليك، خذها منا الف عبارة عظيمة عن التأسف والإعتذار، وسنظل نعتذر منك حتى نغادر من هنا.. لتمر بعدها أربعة أسابيع فقط، حتى قدمت الإدارة اشعار إلى المشرفة بأنها ستعود لوظيفة مترجمة عادية وسينخفض مستواها الوظيفي إلى 3 بدلًا عن 5، ولن تعود مشرفة على أيّ موظف أخر..

أخيرًا، أنا لا أعرف ماذا حل بكبير عمال النظافة ذاك، بعد سنوات كثيرة من ذلك اليوم، لقد رحلت عنهم بعد قرابة عام واحد، ليذهب كلًا منا في حال سبيله، ولكنه مازال محفور ببالي وخيالي كـ نص طويل كتبته من قلبي وإخلاصي، كأول مقال كتبته للعاجزين من هذا الوطن الكبير، يومها أقسمت في داخلي أن يبقى قلمي خالصًا لأجل هؤلاء العاجزين، لأجل قضايا المساكين، لأجل المصادفات التي تجرُني إليهم، سلام عليهم، وسلام على الكتابة التي تنتصر للأخرين وتزيل مخاوفهم، وسلام على ذلك المكان، وعلى تلك الأحزان، وعلى ذلك الإنتصار المحفور في قلبي وروحي وخيالي، ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تعليقات