منبر حر لكل اليمنيين

عن كتاب “كبرتُ كثيراً يا أبي”…

32

أكثر من عشر سنوات دارت مثل شريط داخل رأسي وأنا أقرأ كتاب “كبرتُ كثيرًا يا أبي”.. مضت العشر منذ عرفتُ عبدالمجيد التركي وأنا أحاول فَكَّ شفرة بساطته.. إنه يقطع لكل واحدٍ جواز سفر إلى عوالمه الخاصة، لكن الآخر رغم ذلك يعجز عن الرؤية بعيني عبدالمجيد، والإحساس بحواس عبدالمجيد.. لأن الآخر ليس عبدالمجيد.
لا يحب رؤية الحياة كفيلم أجنبي غير مترجم، لذلك يضع تفسيره الخاص على كل شيء، مهما كانت الأشياء صغيرة أو غير مرئية لأحد.. هو يمنح جمالًا للأشياء من خلال تفسيره هو فقط.. في شعره الفصيح، وفي شعره الشعبي، وفي حديثه، وفي تخزينته، وفي قراءته..
بعدما قرأت أولى صفحات ديوانه الأخير قلت له: “الكتاب هذا وسطه جنان، جنان كبير”.. قال: “الحياة هي جنان ولابد أن نجسدها”.. بعدها قرأتُه في نَفَسٍ واحد، كما تقتضي السباحة في بحيرة الشيطان عبدالمجيد..
عندما تقرأ للتركي أيَّ نص ستجد أنك تشرب النصَّ شربًا، وتثمل بكل فكرة، كأنك وجدت ضالتك التي لم تكن قد فكرت بها.. هو يضع الشعر ومفاهيم الشعر بين يديه مثل العجينة ويضيف إليها المزيد من الجمال والجنون واللعانة.. شعره ليس القصيدة التي تعرفها، ولا التي تتوق لها حتى، إنما هو فوق ما تشتهيه ذائقتك، مهما ادَّعيتَ امتلاك الذائقة التي لا قبلها ولا بعدها، ستظل مذهولًا وأنت تراقب عبدالمجيد داخل نصوصه.. يكفي أن بحوزتك الآن عالَم عبدالمجيد بأكمله.
هذه ليست قراءة في الديوان مثلًا، فهو ليس بحاجة لشهادتي.. أكتب فقط دردشة يفهمها التركي جيدًا.. أقرأ بحدقاته الواسعة وهو يقول: “جمجمة هابيل أفضل حالًا من هذه الرأس المسلوخة”.. أضحك، وأتذكر تعليقاتنا على رواية “الحارس في حقل الشوفان” عندما كنا نقرأ فصولًا منها.. كان التركي يقف عند عبارات غير متوقعة ويقول لي: “ابسر كيف دخل شَيْز.. كضااااك”..
من الذي سبق وذهب بعيدًا في أخيلته ليتحدث عن “جمجمة هابيل” ثم يضع مقارنةً بينها وبين جمجمته؟ لا تجد هذا الطقس من التفكير غير المحدود سوى عند عبدالمجيد..
“أحتاج إلى عيدان صينية
لالتقاط كل هذا الأرز
الذي يملأ وجهي
كي لا أتحول إلى اكتشاف أثري..
سيجدونني بحالة جيدة،
هيكلي ما زال جديدا
أحتفظ به
منذ أربعين عاما،
دون أن تنكسر عظمة واحدة”.
ثم يودُّ أن يتبرَّعوا به لكلية الطب، ليقف ببلاهة الهيكل العظمي ليتأمل طلابَ العظام وهم يتفحصون جمجمته وأسنانه الصناعية، ويخمّنون إن كان رجلًا أو امرأة في حياته السابقة.. ويخشى أن يكسر أحدهم ساقه ليؤكد أنه مُصاب بنقص فيتامين (د)، أو أن يعبث آخر بغضاريف عموده الفقري فيصبح عاجزًا عن الوقوف جوار السبورة..
يا لطيف! تحسستُ فقرات عمودي، وشعرتُ أنَّ كلَّ فقرةٍ منه تناقش الأخرى في هذا الذي أقرأه داخل كتاب عبدالمجيد..
يقول: “حين يصبح التنفس جزءًا من الروتين
تحتاج إلى أنوفٍ كثيرةٍ لالتهام الأوكسجين
ومخارجَ أخرى لكل هذا الهواء المحبوس في رئتيك
كأنك بالونٌ في لحظاته الأخيرة”.
يلعب عبدالمجيد دائمًا في وتر المفردة ووتر الفكرة ووتر العبث إن جاز التعبير.. سيثير انتباهك أنه يصيغ لك اللامألوف بكلمتين، ويجعلك واقعًا في حب هذا اللامألوف رغمًا عنك.. حتى في شعره الشعبي كثيرًا يبتكر سرياليته هذه.. وفي أحد النصوص الشعبية يتصوَّر “عُكَّازًا بعجلات”.. والآن يقول لك إن التنفس جزء من “روتين” يتطلب “أنوفًا كثيرة” لـ”التهام الأوكسجين”.. ما الذي يراه هذا الرجل في يقظته وفي أحلامه؟
قال لي مرة إنه في بعض الأحيان يرى أحلامًا في منامه تستحق أن تُكتب نصوصًا سريالية، ويقوم بكتابتها فعلًا بعد أن يصحو قبل أن ينساها.. ومن هنا أعتقد أن التركي هو الشاعر الذي أثبت أن الشعر لا دين له، وما يعرفش امّه.
في كتابه قدَّم مشاهد في غاية الدهشة والإمتاع والكوميديا السوداء من طفولته وصباه، وبين الماضي والحاضر يسجّل في أعماقه حيوات عديدة، لا حياة واحدة.. وفي بعض المحطات يخاطب أباه الراحل ويحكي له مَشاهد حقيقية ومتخيلة بأدق التفاصيل، ويسخر من كل شيء في حضرةِ أبيه.. يتوق أحيانًا إلى بعض مشاهد الماضي لكنه لا يجادل الحاضر بل يسخر منه.. خُيّل إليَّ أن تجربة “كتاب الاحتضار” كانت مقدمة لهذا الحوار مع الأب بكل ما في الحوار من هواجس خاصة ومن سِيَر ذاتية.
التلقائية المباغتة والفوضوية التي اتسم بها إيقاع الأفكار، هي -بالنسبة لي- أجمل شكل من أشكال الصدق.
وبينما يتحدث عن نفسه من جهة، يكتب من جهة ثانية جزءًا من واقعنا، ومن تشوهاتنا، ومن أشكال معاناتنا، وبمفرداتنا.. الإنسان اليمني بكل أبعاده وتفاصيله حاضر في هذا الشعر.. ستجد الراتب المقطوع، وأسطوانة الغاز، والبنزين، وكيس القمح، والسجائر الرخيصة، وعاقل الحارة، وصاحب الوايت، وغير ذلك، وهذه أدوات الواقع.. والتركي نموذج لشاعر يفهم كيف يمضي بنصه الشعري دون أن يحوّله إلى كلام أشبه بالمقال والعياذ بالله مثل البعض.. التركي يبدأ نصَّه شعرًا ويُنهيه شعرًا.. لا يبحث عن الشعر.. الشعر يحضر إليه.

تعليقات