“كبرتُ كثيرا يا أبي” لـ عبدالمجيد التركي.. سيرة يمنية شعرية مؤثثة بالأمل والأحزان
صنعاء – في كتابه الجديد، الصادر حديثا، بعنوان “كبرت كثيرا يا أبي”، (مؤسسة بدور التركي، الأردن)، يتوقف الشاعر اليمني عبد المجيد التركي أمام الأحداث اليومية المسترسلة في بؤسها المخيم على اليمنيين في ظروف الحرب المستمرة هناك للعام التاسع.
التركي، أحد أهم الأصوات الشعرية لقصيدة النثر اليمنية، يدون ما يشبه السيرة الشعرية، سيرة رجل بلغ الـ45 من العمر بلغة شعرية لا تخلو من السخرية فيلقي بآهاته مثل نكتة عابرة لا بد لها أن تتماهى مع لحظة كاريكاتيرية وجد نفسه يعايش أحداثها.
الكتاب عبارة عن نص واحد: مقاطع شعرية تقترض ملامح وإرهاصات لحظة راهنة، وتشتبك مع ذكريات الطفولة ومشاهدها المستعادة؛ فتتخلق كينونة جديدة معبأة بالأسئلة والقلق، على امتداد مقاطع شعرية تربو على 226 مقطعا وتتراوح بين تقنية المقطع الطويل نوعا ما والمقطع القصير جدا الذي يكون في سطرين أحيانا أو أكثر قليلا.
لكن الذاكرة تظل محمومة، فتستعيد الأيام الخوالي في سياق مقارنة بين الماضي والحاضر وكيف تبدلت مشاعر الخوف من عصا الأب والركض في الأزقة الليلية، إلى كتابة شعرية مغايرة تنزع للتجديد وتبتكر فضاء متحررا من الحشو والتكرار، وتتفلت من عوالق النسيان لحساب ترميم لحظة ضبابية تكاد تفقدنا الأمل في الغد والمستقبل:
منذ 20 عاما لم أركض
لم يعد يخيفني المشي في شوارع مظلمة،
ولم أعد أهرب من (خيزرانة) أبي..
كنت عدّاء ماهرا في طفولتي
أقف على رأس (جبل شهارة)
وأمُدّ رقبتي
مثل وعلٍ يقرأ الجبال بحوافره الواثقة.
غير أن الطفولة ستظل نافذة يطل منها الشاعر على قارئه وقد زحف الشيب على أنحاء من رأسه وأنهكته طوابير حياة مؤثثة بشظايا حرب يتطاير رمادها في الجهات، فيلجأ لأمنية قديمة لعلها تذهب به إلى الحكمة واستشراف الأحداث: “في طفولتي تمنيت أن أضع نظارة على وجهي/ وأن يتساقط شَعري/ لأبدو عبقريا”.
نظارة المستقبل
ويكتشف الشاعر أنه كان بريئا باعتقاده أن النظارة ستجعلنا نرى المستقبل أو على الأقل نلملم حزمة أمنياتنا ثم نطوعها لتصير واقعا يتحقق من خلاله السلام ويتعايش الناس حينها بحب وكرامة، حتى الصلع كان مرتبطا بالذكاء في نظره قبل أن يقرر: “غدا سأرتدي نظارة طبية/ سأرى الأشياء بوضوح رجل ثمانيني”.
لكن سنين العمر تمضي بلا هوادة، والحرب تضاعف الجراح وتملأ المقابر وتمنح الناس نظارات يأس وهزيمة، فعوضا عن بلوغ النضج والحكمة، بات ارتداء نظارة (طبية) نافذة مشرعة على أرواح الضحايا وأشباح الغد المتجهم “قال لي الطبيب: ماذا ترى؟/ أرى أرواح الضحايا”.
وعلى هذا المنوال تتواصل مقاطع الكتاب على امتداد 162 صفحة من القطع الوسط، فبينما يبدأ الشاعر بتأمل تجاعيد وجهه وقد بلغ من العمر مرحلة لم يكن يتوقع أنها بلغت هذا الحد: “مضى من الحياة أجملها، على الأقل كان ثمة مرتب يتقاضاه الشاعر شهريا، لكنه انقطع منذ بداية الحرب”.
هموم شاعر
وتتداعى الهموم على أكتاف غيمة مثقلة بالأحلام البريئة في جبل شهارة (شماليّ صنعاء)، حيث قرية الشاعر ومهد طفولته قبيل انتقاله إلى صنعاء، وإن ظل عجزه في مجاراة الغيمة، هو عجزه الآن في فك طلاسم الحياة المتناقضة والكاريكاتيرية في اليمن:
تتذكر أنك دون مرتب
فتنسى كل اهتماماتك،
ستسوء علاقتك بزوجتك
حين ترى عجزك الجديد عن تعبئة أسطوانة غاز
فتذكرك بعجزك القديم.
ولا يتوقف الأمر عند طبيب العيون، وإنما يتطلب الأمر جلسات استطباب شاملة كي نفيق من كابوس يومياتنا في حين نستعيد جمجمة هابيل القتيل الأول، هل تشبه جماجمنا المعبأة بغموض المستقبل وأنين اللحظة وفداحاتها؟: “أتأمل جمجمتي في صور الأشعة/ هذا ليس أنا../ حدقاتي واسعة كأنني شبح/ وهذا المجدوع ليس أنفي”.
وبينما يحشد شخصيات وحيوات ظلت تلاحقه منذ طفولته، يتحفنا التركي بمقاطع تستشرف محطات العمر، تلتقط نجمة ضوء في واقع يصعب فيه حتى التنفس:
كبرت كثيرا
بدأت باستهلاك النصف الآخر من عمري،
أنتظر السُّكّر والضغط كل يوم
وأتأمل الذين يحملون نصف أجسادهم الميتة
ويمشون بقدم واحدة.
ورغم ندوب الحرب وتصحر الوجوه والأمكنة لا بد من الحلم حتى وإن كان ذلك يتطلب ابتكار سيناريو مغاير وصعب لحياة (سينمائية محتشدة) أخرى ننشدها: “أبحث عن البجع الذي كان يتساءل “هولدن كولفليد” (الشخصية الرئيسية والراوي في رواية الأميركي جيروم ديفيد سالينجر “الحارس في حقل الشوفان” التي صَدرت سنة 1951) عن مصيرها حين تتجمد البحيرة في الشتاء”.
إنه البحث عن وطن يتمزق ويشيخ في صمت، عن غيمة فوق جبل شهارة، شكّلتها الاحزان الكثيرة.