منبر حر لكل اليمنيين

تلويحة

32

(1)
الآن تلويحة أخرى، هناك، على النّفق البعيد، نشيد بلادي، أغنيتها المخمّرة برائحة الياسمين، وهنا لا أحد، صباح ضجر ، ونسمات ثقيلة، لم يكن عهدي بها على هذه الشاكلة التي ما أن تبلعها حتى تخرج من فمك رماداً وسوادا.

يا صديقي المقتول بهويته، يا غضب يلّف المكان والزمان كثورة خارجة من البؤبؤ المخذولة، يا حرفاً تجعّدت نقاطه في الشهقة الأولى، ويا نديم الأبجديات المشنوقة بداء الصمت، هذه تلويحة أخرى، كانت رئتيك تنفخ في وجه السماء، وكان معطفك بارد ويتيم، تتوغّل القصائد في جمجمتك حتى خلتها تشتعل على رأسك الأصهب، لماذا كنت تلتوي من شهقّة القصيدة على فمها، ولماذا الناي المنكمش على عينيك لم يخرج، دمعتين، هذا ما قدرت عليه، وبيني وبينك ألف طعنة، بيني وبينك متارس وقنابل ومقابر، تأت محمّلاً بالأسى، تفضحك بحّة عابرة، تكتم دمعك حتى يستحيل شظايا في صدري، تخرج من نفسك باحثاً عن نفس أخرى، ولا تجد شيء، مثلي تماماً، نقف على بقعة مهترئة، يأكلنا الصدأ، وتنخر في سكينتنا الأمسيات الكاذبة، وما أن ينجح البكاء في خروجه الأول حتى تخضعه لحكمك المستبد: أغنية قديمة كأنها معطف شتوي، تخبأه كلقيط خوف من حجارة الحمقى. لكنني ألمسه، أتجرّعه دمعة دمعة، يتسرّب في الروح كطعنات لا قدرة لي على صدّها. هنا في الضّفة الأخرى منك ، شارع مزدحم بالأشلاء، وآخر تسير عليه الرؤوس مطأطأة كما لو كانت في يوم الحشر، تقيم على قبر منسي، وأقيم في بهو قذر، أجمّع حبّات الغبار واحدة تلو الأخرى، ماذا أريد، حقاً لا أعرف، تارة أسلّي نفسي بأنني أمُسك غبار بلادي، وتارة أهرب من ضجر الشيخوخة وألهو كما يفعل الأطفال. لماذا نحن هنا، ماذا نفعل في المنافي الكئيبة، ألا تشعر بأن المنافي قد ملّت خطانا، ألا تصادف في اليوم ألف عين شافقة ومشفقة وغاضبة في الآن نفسه.

هذه تلويحات عدّة يا عزيزي، الشمس الحارقة التي تلدغ رأسك، والترّبة المبللة بخمر الكسالى، ونحن ، بين هذا كلّه، لا أشرعة، ولا أزمنة ولا قصائد، نداري الدمع بدمع أشد حرقة، ونواسي الحكاية بحكاية أشد ضراوة، وبين ذلك وذاك، نموت مرّتين، ولا أحد يعلم، لا أحد يا صديقي، أنا وأنت، وصلّعة يكمن عزاؤها في رغبتك المرتعشة: خصلات وجدائل وشعر مصقول بالغيمات.
(2)
تقتلني رياحك القادمة من جذوة الروح، يقتلني صمتك المبهم، وشرودك المبسوط على ذاكرة النسيان، يقتلني حنينك الموشّح بأغنيات الغياب، ويقتلني ذلك البهوت المرسوم على أهدابك الناعسة. انني في كل ليلة أناجي بك أقادر السماء، أتسلّق حبات الغبار المنثورة في صخب النسيان، علّها تمنح روحي قليلاً من السكينة المفقودة، لكنني يا سيّدة المقام، مقتول بصوت بلادي، مقتول بصرخات بلاد معدومة الأمل والذات وحق العودة من جديد. أرسمك على هتفات أطفال منافي العمر، ويخرج من عينيك رماد الحرمان، يخرج كدمٍ راعف في حنجرة أطفالنا التائهين، وأنا هنا، لا أعرف كيف لي أن ألملم هذا الرعاف في ذروة الأعصار المستميت، كيف لي أن أعيد تشكيل أجنحتي المخذولة، وكيف بإمكان هذه الروح أن تجدّف على طينة من الدم، وهذا الاتساع المفروش على فضاءات العمر ، كيف له أن يعيد بوصلة عمري إلى عينيك وحدك.
* من حسابه في فيس بوك

تعليقات