منبر حر لكل اليمنيين

علي المُقري.. رحلة الخصوصية اليمنية إلى العالمية

44

مع الأيام الأولى من شهر مايو من عام ٢٠٢٢م يكون الأدب اليمني قد وصل الى مرحله مميزة، وتمكن من الحضور خارج الحدود بشكل مميز، من خلال الفارس الذي حصل على وسام الفنون بدرجة فارس.. ربما ليست المرة الأولى التي يحصل فيها أديب يمني على إنجاز عالمي، ولكن الظرف الذي تمر به اليمن حاليا وكذلك وضع الحراك الأدبي اليمني المتعثر حاليا بسبب الحرب هو ما يضيف القيمة الكبيرة لأي نجاح خلال هذه المرحلة.. أتحدث بالتحديد عن حصول الروائي اليمني البارز/ علي المقري على وسام الآداب والفنون بدرجة فارس من الحكومة الفرنسية.
وكان علي المقري المولود في محافظه “تعز” اليمنية في ستينيات القرن الماضي قد بدأ الكتابة الأدبية في مرحله عمريه مبكرة وتطورت تجربة الكتابة لديه بشكل لافت، لعوامل كثيرة، فقد كان واضحا في شخصيته تعلقه الكبير بالكتابة والهوس بالجديد المختلف والملفت للقارئ، وربما كان التحاقه عمليا بوسائل الإعلام الثقافية مؤثرا كبيرا في تجربته الأدبية، وظل لعقود من الزمن واحد من الأسماء اللامعة في الثقافة اليمنية ككاتب ومحلل ومحرر ثقافي، وشاعر تميزت تجربته الشعرية بالحداثة العالية في الشكل والمضمون.. حيث يعتبر المقري واحدا من أبرز كُتاب قصيدة النثر في اليمن، ومن المؤثرين الذين اسهموا في وجود قاعدة قراء وجمهور واسع لهذا النوع من الكتابة.
كان عمله في الصحافة الثقافية سببا في تعامله مع مختلف الكتاب الذين ظهروا ونشروا خلال ثلاثة عقود وقام هو بتقديم الكثير من الأسماء في المساحات التي كان يقوم بتحريرها.
وعلي المقري كاتب متنوع قدم الكثير.. من الشعر إلى الفكر وانتقالا إلى أدب الطفل، وكانت بعض قصائده تحدث أصداء كبيرة ابتداء من تفاعلات المعجبين وانتهاء بحسد الزملاء أحيانا ، ومرورا بالسخط الكبير للرقابة، وبالذات الرقابة الدينية التي كان يفرضها وجود الكثير من التيارات المحافظة.
انتقالات علي المقري من نوع كتابي إلى نوع آخر كان ايضا مثيرا للجدل ولافتا.. كان صدور كتابه المعنون “الخمر والنبيذ في الإسلام” عن دار رياض الريس بيروت في العام 2007 وهو كتاب مختلف عن الخط الأدبي المألوف للمقري فموضوعه فكري ديني تاريخي وأدى لإثارة معارك فكرية كبيرة في الوسط الثقافي اليمني.. واذا كان المقري في تجربته الشعرية قد استفاد من كل فنون الكتابة التي لم تكن متعلقة بها بشكل مباشر.. فإنه نقل لغة الشعر ومهاراته الى اشتغالاته الأخرى .. تمكن من بناء لغته بالاعتماد على قراءاته الكثيرة في التراث وفي الآداب المترجمة ومن خلال عمله في الصحافة.. ايضا كانت لغة الصحافة مؤثرة في كل كتاباته وأعماله .. وليست لغة الصحافة وحدها في الواقع، بل فكر الصحفي ودقته وتواصليته مع القارئ، والتحكم المهني بالرسالة والتلقي.. علي المقري كاتب يستطيع أن يستفيد من كل هذه الروافد بشكل غير مسبوق لدى أدباء وأديبات اليمن وكان هذا واضحا في كل كتاباته المنشورة من خلال الصحافة أو من خلال كتبه التي كانت المجموعات الشعرية هي الغالبة عليها منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين وحتى العام 2003 حيث أصدر ثلاث مجموعات شعريه شهيرة وهي نافذه للجسد ١٩٨٧ وترميمات 1999 يحدث في النسيان 2003 ومنذ العام 2009 ظهر المقري بتجربة كتابية جديدة لفتت الأنظار إليه محليا وعربيا.. ولعلها أفضل وأثرى ما قدمه في حياته أو الأكثر تأثيرا وهي كتابة الرواية .. تحول إلى الرواية ليتحول إلى نجم عربي مرشح للعالمية بقوة.. حيث صدرت الرواية الأولى “طعم أسود رائحة سوداء” عن دار الساقي في العام 2009 ووصلت الى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية وفي العام التالي بنفس المستوى والتأثير جاءت روايته الثانية بعنوان “اليهودي الحالي” وصلت ايضا الى قائمه جائزه البوكر.
وفي رواية “حرمة” قدم تجربة في الكتابة جمعت بين التعرية الحادة لأفكار تقليدية كانت موجوده ومؤثره و تشارك في إدارة الحياه بشكل كبير.. جمع بين هذا الهدف الفكري وبين لغة جريئة غير معهودة ه في الكتابة الروائية في اليمن و منذ تلك الروايات الثلاث ظل المقري الاسم المتداول في اشتغالات رواياته على قضايا إنسانية مهمة مثل قضايا المهمشين التي تناولتها رواية “طعم أسود رائحة سوداء” وهم فئة يمنية لها معاناتها المزمنة وكانت بعيدة عن متناول الأدب حتى اقترب منها المقري ، واشتغاله على المشترك الانساني وتقديمه بشكل فني مميز في رواية “اليهودي الحالي” التي تناول فيها قصه حب بين فتاه مسلمه وشاب يهودي في إحدى مناطق اليمن التي اشتهرت بسكن اليهود اليمنيين فيها قبل هجرتهم منها في منتصف القرن العشرين تقريبا وهجرات لاحقة.. قدمت الرواية قضايا الحب والفكر والاختلاف والعلاقة بين الأنا والآخر من زاوية خاصة ومميزة.
قبل سفره من اليمن وهو سفر اضطراري ونزوح ناتج عن الحرب التي اندلعت منذ ما يزيد عن سبع سنوات إلى الان.. كانت الرواية الأخيرة قبل السفر هي رواية “بخور عدني” ثم هاجر المقري ومر بمحطات كثيره قبل وصوله إلى باريس التي استقر فيها وبدأ هناك مشاركات في العديد من الأنشطة الثقافية والأدبية واصدر في مهجره او منفاه في باريس روايته الأحدث وهي “بلاد القائد” ٢٠١٩م ومنذ انتشار خبر حصوله على وسام الفنون من فرنسا بدرجة فارس رأى العديد من الكتاب والباحثين والمثقفين انه نجح في أن يواصل السير بخطى ثابتة نحو العالمية فقد ترجمت معظم أعماله إلى الكثير من اللغات الحية في العالم كما أن معظم هذه الأعمال الروائية تحديدا هي اشتغالات على الخصوصية اليمنية إلا أنها كتبت بطريقه رشحتها بقوه لتُقرا في كل مكان وبكل اللغات.
وفي الحقيقة فإن هذا الحضور الذي تمثله روايات علي المقري قبل سفره وزاد تأكيدا وهو في مهجره الباريسي هذا الحضور يذكرنا بطبيعة الإبداع اليمني فنّاً وأدباً الذي يزدهر في المهاجر، فأول رواية يمنية في التاريخ كانت لأديب مهاجر في شرق آسيا وهو أحمد السقاف وروايته “فتاة قاروت” ١٩٢٧م ومعظم نجوم الكتابة الشعرية ونجوم الغناء اليمني بمختلف ألوانه كانوا يسافرون إلى بلدان أخرى ليقوموا بالإنتاج في ظروف تفتقد إليها أرضهم التي تعاني خلال فترات سابقة وحالية من اضطرابات وحروب.
خمسة وتسعون عاما منذ صدرت أولى الروايات اليمنية لأحمد السقاف ١٩٢٧م وحتى فوز علي المقري بهذا الوسام بدرجة فارس ٢٠٢٢م . ظلت خلالها الرواية اليمنية حاملا بارزا للخصوصية اليمنية إلى كل القراء والقارئات خارج الحدود، ولا زال المستقبل واعدا بالكثير طالما ظلت هذه البلاد في دراماها المستمرة التي تمثل خامة مميزة للتعبير الأدبي السردي، وطالما ظل إنسانها حالما بالسلام الذي يستحقه، السلام الذي ظلت الأقلام تنادي بعودته باستمرار ولا زالت.

تعليقات